إلى متى ستبقى الأملاك العامة البحرية ملفّاً فاسداً بامتياز؟

محمود الاحمدية

بتاريخ 24/ حزيران/ 1966 حدّد المرسوم رقم 4810 الأسس التي يجب التقيّد بها لاستثمار الشاطئ البحري ومنها:

1- أن تبقى الأملاك العامّة البحريّة باستعمال العموم ولا يكتسب عليها لمنفعة أحد أيّ حق يخوّل إقفالها لمصلحة خاصة.
2- أمّا السماح بتخصيص جزء من الشاطئ لاستعمال أفراد أو مجموعات وحصر هذا الانتفاع بهم من سواهم فإنه يكون عملاً استثنائياً يمكن تطبيقه في حالات خاصّة تخضع للأسس العامة التالية:

أ‌- يجب أن يكون المشروع المنوي القيام به ذا صفة عامّة وله مبرّرات سياحية أو صناعية. ويقصد بالصفة العامة أن يبقى المشروع بكامله بتصرّف العموم ويمكن استعمال جميع أقسامه من قبل أي كان لقاء بدل يدفعه مقابل هذا الاستعمال، وإنّ بيع أي جزء منه وتخصيصه لاستعمال حصري ينفي الصفة العامة عن المشروع بكامله حتى ولو كان هذا التدبير لا يطال إلا جزءاً بسيطاً منه.

ب‌- أن لا يشكّل الاستثمار المطلوب عائقاً لوحدة الشاطئ في حال وجود مساحات يتوجب إبقاؤها مفتوحةً للعموم.

ج- أن لا يسمح بإنشاءات دائمة على الأملاك العامة البحرية سوى ما يعود منها للتجهيزات الرياضية والتنظيمية على أن لا يتعدى معدّل الاستثمار السطحي لهذه التجهيزات 5% وأن لا يعلو البناء فوق الأملاك العامة البحريّة أكثر من ستة أمتار مع عامل استثمار أقصى 0.075.

د- لا يمكن استثمار الأملاك العامة البحرية للمشاريع الصناعية إلاّ ضمن المناطق المخصّصة لها لهذه الغاية.

ويعنينا جيداً بعد هذا التوضيح المبني على القائمين أن نحدد معنى الأملاك العمومية حسب القرار 144 تاريخ 10/ حزيران/ 1925، إنّها جميع الأشياء المعدّة بسبب طبيعتها أو لاستعمال الجميع أو لاستعمال مصلحة عمومية ومنها شاطئ البحر حتى أبعد مسافة يصل إليها الموج في الشتاء وشواطئ الرمل والحصى وهي لا تباع تكتسب ملكيتها بمرور الزمن. وبموجب القانون الصادر بتاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1974 ألحق قعر وجوف المياه الإقليمية بالأملاك العمومية.

الاملاك البحرية لبنان

جاء في كتاب التنظيم المدني في لبنان للمهندس محمد فواز حرفياً أن لبنان هو البلد الوحيد في العالم حسب علمنا الذي يسمح لأشخاص بإشغال الأملاك العامة البحرية حصراً ويمنع المواطنين من الوصول إلى البحر بحريّة “والمهندس محمد فواز غني عن التعريف وقد بقي مديراً للتنظيم المدني ثمانية عشر عاماً” مما جعله يشهد بشكل شخصيّ وعملانيّ على هذه الكارثة بحقّ البحر والشاطئ والبيئة.

قبل أن أفكر بمقالتي هذه عن الأملاك العامة البحرية كنت أعلم جيداً أن هذا الملف من أصعب الملفات، وأن الحيتان المالية والسلطوية الذين يستفيدون بثروات هائلة تعدّياً وحراماً وفساداً، قد أغلقوا كلّ الأبواب وعلى مدار عشرات السنين على مطلق أيّ حلّ، وجاءت الحرب اللبنانية وازدادت شهوة السيطرة على الشاطئ وقامت مئات المشاريع الوقحة زوراً وتعدّياً، منها ما لم يرخّص له، ولكنّه لم يمتثل للشروط التي على أسسها تمّ الترخيص له ومن الأساس نحن نعلم بأنه حتى مجرد الترخيص هو باطل وغير قانوني نسبة لأن هذه الأملاك هي أملاك عامة ملك حلال زلال للناس… قليلون الذين يدركون بأن رمال هذا الشاطئ الجميل من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال وبأن الشاطئ نفسه هو مرتع حقيقي لاستقبال كلّ الناس… مثالاً على ذلك في مدينة نيس الفرنسية والريفييرا الفرنسية بالذات وهي من أجمل شواطئ الدنيا لا يحقّ لأفخم الفنادق العالمية على شاطئها أن تمنع الناس من ارتياد الشاطئ، وهم على المستوى نفسه من الحقّ في ارتياده من نزلاء هذه الفنادق… وهذه الحماية لحقّ الناس كلّ الناس جعلت من شاطئ الريفييرا جنّة حقيقية يختلط فيها كل أجناس البشر… مما يرفع المستوى السياحي إلى أعلى الدرجات… ومن المؤلم حقاً أن نعلم بأن قسماً من هذه المشاريع الخاصة الممنوعة قانوناً قد قامت على ردم مساحات كبيرة من الأملاك العامة البحرية مما غيّر المعالم الطبيعية… ولم يبق متنفّساً للناس، فكتل الباطون الضخمة تشكّل جداراً كثيفاً موازياً للبحر مما يسبّب تهديماً للشاطئ وتغييراً لمعالمه… هذه الشواطئ والرمال والبحار يسبّب تهديماً للشاطئ وتغييراً لمعالمه…

هذه الشواطئ والرمال والبحار هي نتاج توازن بيئي وتغيّرات جيولوجيّة امتدّت على ملايين السنين وجاء الإنسان ودمّر هذا المنظر الرائع بكل خفة وقلّة مسؤولية طمعاً بحفنة من الدولارات… رمال شواطئنا أغلى من الذهب، فالذهب تبيعه لمرة واحدة ولكن رمال هذه الشواطئ تستفيد منها سياحة ورياضة بحرية وأناساً ومناخاً مئات المرّات… إن نفط لبنان سياحته ونقطة البيكار في دائرة سياحته هي هذه الشواطئ… نظرة بسيطة إلى الدول المتقدمة في مجال سياحة البحر والشاطئ على سبيل المثال لا الحصر: إسبانيا، اليونان، فرنسا، تونس، إيطاليا، مقياس نجاحها السياحي يعود وبشكل مباشر إلى قدرة استيعاب شواطئها من السيّاح… في لبنان ماذا نرى تحول الشاطئ إلى مجموعة من النوادي الخاصة والمساكن الثانوية يملكها أشخاص معيّنون ولا يستطيع التمتّع بالبحر إلاّ من كان مالكاً أو مشتركاً، أمّا المواطنون العاديون فليس لهم مكان في هذه النوادي وكذلك السيّاح ليس لهم مكان وعليهم أن يفتّشوا عن بحر آخر… بربّكم أليست هذه السياسة السياحيّة عبارة عن استباحة سياحيّة من قبل عدد من الرؤوس الحامية المصانة والمحمية على طريقة ومن بعدي الطوفان.

والأنكى من كلّ ذلك أن القانون لا يسمح للدولة استيفاء رسوم أشغال الأملاك العامّة البحرية من قبل المؤسسات التي ليس لديها ترخيص قانوني وتكون النتيجة بكلّ وضوح: “مكافأة للمخاف”… فعلى حدّ علمنا أن الدولة تقع في عجز ضخم من الديون ومئات ملايين الدولارات من رسوم أشغال هذه الأملاك تذهب هدراً ولا من حسيب ولا من رقيب… بتقديري وبدون مزايدة:

1- تنظيم وتوجيه البناء بشكل مناسب بحيث تطبّق القوانين بشكل صريح وبطريقة استيعابية لكل الحالات الموجودة.

2- حماية الشاطئ الطبيعي: بحيث يتمّ إعلان عن بعض الأقسام المميّزة من الشاطئ “مناطق طبيعية محمية”، ويمنع سحب الرمول من الشاطئ.

3- منع استعمال الشاطئ بطريقة لا تتناسب مع مواصفاته.

وخلاصة حديثنا إن اعتبار الشاطئ “ملكاً عاماً” بتصرّف جميع المواطنين دون استثناء لا يسمح للأفراد بإقفاله أمام الجمهور، هو مبدأ معتمد في جميع بلدان العالم…

بكل محبة وهدوء، أقترح على حكومتنا الكريمة أن تبعث بوفد حضاري يملك الرؤيا إلى مختلف هذه الدول الأوروبية وحتى الأفريقية من بلدان العالم الثالث حتى يروا ويلمسوا في الحقيقة والواقع كيفيّة استثمار الشواطئ واستعمالها وتحويلها إلى رافد سياحي رئيسي لها يؤمّه ملايين الناس سنوياً…

وبمناسبة اقتراب موعد الانتخابات النيابية، نعلم جيّداً القيمة الاشتراعية للنائب الكريم الآتي ونعلم مدى أهميّته في الإحاطة بهذا الملف بكلّ جرأة والتصدّي له بكلّ عزيمة وإرادة حرّة، من اللافت جداً أنّ الصمت حول هذا الملف عمره سنوات طويلة وعلى طريقة النعامة والرمال، فرحمةً ببلدنا، بهذا “اللبنان” نطلب ونطالب المرشحين القادمين أن يرفعوا الصوت عالياً ببعدٍ تشريعي حول هذا الملف وأن يلاقيهم المجتمع الأهلي البيئي ببُعد نضالي في منتصف الطريق لوضع خطة تزيل عن قلب اللبنانيين وعن قلب الشاطئ هذه العلّة والمرض التاريخي الذي اسمه المخالفات والتعديات على الأملاك البحريّة العامّة.

*رئيس جمعية طبيعة بلا حدود

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة