لبنان بين ثنائية السلاح وغياب الإستراتيجية الدفاعية

نزار عبد القادر (الحياة)

لم يقرأ الحكام الذين تعاقبوا على الحكم منذ إنشاء الجمهورية اللبنانية بتمعُّن كتاب «الأمير» لمؤلفه نيقولو ماكيافلي، والذي عالج فيه قضايا تتشابه إلى حدّ بعيد مع الأوضاع الاجتماعية ومشاكل الحكم والسلطة السائدة في لبنان منذ عشرينات القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر.

تتركز وجوه الشبه في التآكل والانهيار المستمر للنظام الإقطاعي، والذي كان يشكل هرمية اجتماعية وأمنية. طرح مكيافلي تصوره لمعالجة نتائج هذا التدهور من خلال إقامة مؤسسة شرعية تقوم مقام «الهرمية الإقطاعية» تعرف بالدولة.

يتطلب استعراض الوضع السياسي اللبناني إبداء ملاحظات عدة، أبرزها:

1- تلتزم الدولة بتحقيق السلام والاستقرار والدفاع عن مواطنيها مقابل ولائهم وأموالهم. وإذا دعت الحاجة حياتهم. ونسجل هنا عجز الدولة في تأمين هذا الالتزام.

2- لا يتوقف نجاح الدولة في مهمتها هذه على تشكيل جيش وقوى أمنية قادرة على فرض الأمن والاستقرار والدفاع عن الحدود في الظروف العادية، بل يتعدى ذلك إلى تحقيق البنية المالية القادرة على تحمّل النفقات المترتبة على متطلبات الأمن والدفاع في الأزمنة الحرجة: عندما يدق ناقوس الخطر لمواجهة حرب خارجية أو فتنة داخلية. ويتوقف نجاح الدولة في وظائفها الأمنية والدفاعية على صلابة العلاقات التي ينظمها الدستور بين الحكام والمحكومين. لقد عجزت الدولة اللبنانية عن تحقيق مستلزمات الدفاع والأمن، وسادت علاقات الدولة بالشعب أجواء من عدم الثقة.

3- تعيش الدولة اللبنانية ظروف أزمة مستمرة ومتفاقمة منذ العهد الأول للاستقلال، حيث فشل رعيل الاستقلال في التأسيس لبناء الدولة الفاعلة والقادرة على إدارة النظام الإقطاعي المتداعي. لذلك كان من الطبيعي أن يشهد لبنان ثورة 1958، والأزمات اللاحقة التي عصفت بالبلاد في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، والتي أدّت إلى الحرب الأهلية عام 1975، وحربين مدمرتين مع إسرائيل في عامي 1982 و2006. كما خضع البلد لاحتلالات ووصايات أمنية كما حدث في زمن الانتشار المسلح الفلسطيني. واحتلال إسرائيل الشريط الحدودي منذ عام 1978 وحتى عام 2000، ولوصاية سورية دامت من عام 1977 إلى عام 2005. كان لبنان طيلة هذه الفترة من الاستقلال في غرفة «العناية الفائقة»، حيث لم تتوافر لديه السلطة القادرة على تحقيق الأمن الخارجي أو الاستقرار الداخلي. فالدولة كانت وما زالت في الاتجاه المعاكس لما نصح به ماكيافلي، خصوصاً بعد أن عطّلت الدستور من خلال اعتماد صيغة غير مكتوبة للحكم عرفت بالميثاق الوطني، في محاولة يائسة للحفاظ على النظامين الإقطاعي العائلي والطائفي.

4- تقاطعت مصالح الإقطاع العائلي، مع مصالح الإقطاع الطائفي والمذهبي ومع مصالح طبقة من المستغلين من أصحاب الامتيازات والأثرياء، وانعكس ذلك على أداء الدولة، وعلى قدراتها المالية بعدما فشلت في اعتماد ضريبة عادلة تؤمن مصادر التمويل لبناء قوى عسكرية وأمنية قادرة على حماية الوطن واستقراره.

5- واجه لبنان منذ الانسحاب السوري مأزقاً سياسياً وأمنياً متفاقماً:

– هناك غياب للقرار السياسي اللازم لأية معالجة جزئية أو كلية للقصور الحاصل في أداء الدولة على جميع المستويات وفي مختلف وظائفها.

– لبنان مكشوف أمنياً وسيادياً، تحت تأثير التطورات الحاصلة في الداخل وفي المنطقة، إضافة إلى فقدان الدولة حق ممارسة قرار السلام والحرب في ظلّ ازدواجية السلاح، وتفلّت «حزب الله» في قراراته العسكرية، بالتالي تحوّله إلى قوة إقليمية تستوحي قراراتها من دولة خارجية، مع كل ما يمكن أن يترتب من أخطار اندلاع حرب جديدة مع إسرائيل. ستكون هذه الحرب مدمرة للبنان على كل الأصعدة وبكل المقاييس.

6- لم يحترم لبنان المواعيد الدستورية ونصوص القوانين الأساسية من أجل تأمين استمرارية السلطة، فتعطلت المؤسسات الدستورية الرئيسية، من رئاسة الجمهورية إلى تشكيل الحكومة إلى انتخاب مجلس نيابي جديد (جدّد المجلس النيابي لنفسه مرات عدة). استدعى حلّ المأزق السياسي الداخلي المتجدّد تدخّل قوى إقليمية ودولية من أجل تأمين الحدّ الأدنى من التوافقات لانتخاب رئيس أو لتشكيل حكومة. وكانت أبرز هذه المحطات في الأعوام 1958 و1969 و2005 و2008 و2016.

أما في زمن الوصاية السورية فقد كان القرار الحاسم في شأن الاستحقاقات في يد السلطات السياسية السورية. وترتبت على أيّة مخالفة للمشيئة السورية نتائج وخيمة، ترجمت باغتيالات سياسية لرئيسين للجمهورية وللرئيس رفيق الحريري ولعدد من الشخصيات السياسية. وكان قد سبق ذلك اغتيال رئيسين للحكومة لأسباب سياسية وهما رياض الصلح ورشيد كرامي.

لا يبدو أن المأزق السياسي والأمني الذي يواجهه لبنان هو في طريق الحلّ، بل هو مرشح ليشهد المزيد من التعقيدات في ظلّ ارتدادات أحداث الربيع العربي والتساقطات السامة للأزمة السورية وتدخل «حزب الله» في الحرب، مع تأكيد قيادة الحزب بأن موضوع سلاحه غير قابل للنقاش، وبأنه قد تحوّل إلى قوة إقليمية فاعلة، تعمل جنباً إلى جنب مع الحرس الثوري الإيراني. في هذا السياق لا بدّ للبنان التنبُّه إلى الأخطار «المصيرية» المتمثلة بوجود ما يقارب مليون ونصف المليون نازح سوري على أرضه- وهي مشكلة قد تمتد ثلاثة أو خمسة عقود، مع إمكانية توطين مئات الآلاف منهم في لبنان وبما يهدد جميع التوازنات الطائفية والسياسية.

على الصعيد الإقليمي، باتت إيران قوة مؤثرة في المسارين الأمني والسياسي، وهذا ما تؤكّده تصريحات المسؤولين الإيرانيين، والتي كان آخرها ما قال الرئيس حسن روحاني في كلمة بثها التلفزيون الرسمي متسائلاً: «أين من الممكن في العراق وسورية ولبنان وشمال أفريقيا والخليج الفارسي اتخاذ قرار حاسم من دون أخذ الموقف الإيراني في الاعتبار». ينطلق في رأينا هذا الموقف الإيراني من شعور إيران بالقدرة على التأثير داخل هذه المجتمعات من خلال قوى محلية تعمل لمصلحتها، وفي طليعتها «حزب الله» الذي بات يلعب دوراً مؤثراً في لبنان وسورية والعراق واليمن وعدد من دول الخليج.

في المقابل تستعد إسرائيل سياسياً وعسكرياً لمواجهة المشروع الإيراني على المستوى الإقليمي، كما ترصد تحركات «حزب الله» في سورية ولبنان، وهي جاهزة للتصدي لنشاطاته العسكرية التي باتت تهدد عمقها الإستراتيجي من خلال امتلاكه قوة صاروخية يقدرها الخبراء بمئة ألف صاروخ.

على المستوى الدولي قرّرت إدارة دونالد ترامب التخلي عن سياسة المهادنة التي كانت تتبعها إدارة باراك أوباما مع إيران و «حزب الله» حيث أعلن الرئيس الأميركي استراتيجية جديدة للمواجهة مع إيران بالاشتراك مع الحلفاء من أجل احتواء نفوذها، كما تعمل الإدارة والكونغرس على فرض عقوبات جديدة على إيران و «حزب الله»، بما فيها ممارسة الضغوط على الدولة اللبنانية لحثها على الاضطلاع بالتدابير اللازمة للحدّ من هيمنة وحرية المناورة التي يمارسها الحزب أمنياً وسياسياً.

يترافق كل ذلك مع تقارير وتحليلات دولية ترجح إمكانية حصول حرب في لبنان بين إسرائيل و «حزب الله»، وكان أبرز هذه التحليلات ما كتب رئيسا أركان الجيش الألماني الأسبق الجنرال كلوز ديترفونان ورئيس أركان الجيش البريطاني الأسبق الجنرال لورد ريتشارد دانات بتاريخ 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2017، حيث توقعا حصول حرب ستكون نتائجها مدمرة على لبنان.

تفترض كل هذه التهديدات والأخطار التي يواجهها لبنان أن تتحرك الدولة اللبنانية على كل المستويات لاحتواء ما يمكن منها، ويبدو أن هناك حاجة ماسة أن يدعو رئيس الجمهورية إلى طاولة حوار وطني، يتركّز البحث فيها على ثلاثة مواضيع رئيسية: تحييد لبنان، ومستقبل سلاح «حزب الله»، والاستراتيجية الدفاعية الوطنية.

في غياب الدعوة هذه سيبقى «حزب الله» صاحب المشروع السياسي والعسكري الوحيد في لبنان، في الوقت الذي تستمر القوى السياسية اللبنانية الأخرى مشغولة في مماحكاتها السياسية من أجل كسب الانتخابات المقبلة، وفي عقد الصفقات التي تفوح منها روائح الفساد وسرقة المال العام.

استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري حصلت بعد كتابة هذا المقال، وهي حدث كبير يُنذر اللبنانيين بضرورة التحاور والالتفاف حول الدولة لتكون وحدها صاحبة القرار في السلم والحرب.

* باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية.