مفهوم المواطنة

د. قصي الحسين

أثار القرار الكردي والقرار الكتالوني مؤخراً حفيظة الأقليات في العالم، وحفيظة الأكثريات أيضاً. لم لا! فكما حفز هذه الأقليات على طلب الاستقلال والانفصال وحق تقرير المصير، فهو قد نبّه بالمقابل الدول الدولتية ذات المنـزع السيادي، الراديكالي الامبراطوري، على أخذ الحيطة من خطوات الأقليات الانفصالية التي يمكن لها أن تصغر حدود الدولة، أو أن تسرق منها بعض حقوق الاستثمارات وقسماً كبيراً من الزبائن، وهامشاً لا يستهان به من الزبائنية.

وتنطلق الأقليات عادة من مفهوم الأثرة الذي يستجر لها المنافع الخصوصية الكثيرة، المادية منها والمعنوية، ويوسع لها حدود المنافع العامة ويطلق فيها يديها، فلا تكون أسيرة المراقبة أو المحاصصة أو الشراكة أو التقاسم مع الدولة التي تعيش في كنفها. مما يفجر لها النوازع والأطماع ويفتح لها الشهية على المغانم الزائدة والمكاسب النافلة. وتحرر بالتالي من اسر الهوية الأبوية وسلطة الأخ الأكبر، ابتداءً من هواجس “الساحة الوطنية والقومية” ووصولاً إلى هواجس “سوق البطيخ”.
ومطلب إنفصال الأقليات عن الدول الحاضنة لها، قديم، وجديد ومتجدد. ومثلما توجد أقليات بمنازع انفصالية في الشرق، شجع عليها الغرب، توجد أيضاً أقليات مثلها بذات النوازع في الغرب، شجع عليها الشرق، حين كان ذا باع طولى يحسب لها حساب، مادياً ومعنوياً.
وكانت لنتائج الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، آثارها القوية في تحريك نوازع الانفصال لدى الأمم الصغيرة من الأمم الكبيرة. وساهمت الأمم المتحدة، بإرساء مفاهيم الحقوق المادية والمعنوية والهوياتية، وضخت في نفوس الطامحين للانفصال، جرعات من هواء الحرية وأوكسجين الاستقلال.
كذلك ساهم طغيان الدول الحاضنة التي تكفلهم وتتكفلهم، بنوازعها الاستبدادية والإمبريالية الخرقاء، وبشوفينيتها وغطرستها الشمولية والتي لا ترحم حتّى الوطنيين والقوميين الشرفاء من أبنائها ولا تحمي ولا تكفل ولا تساند تطلعاتهم التطويرية في بناء الدولة والحياة السياسية فيها، أقول ساهم طغيان الطغم الحاكمة، بإثارة حوافز طلب الاستقلال والحقوق التاريخيّة في تقرير المصير، لدى زعماء الانفصالية، وقادة حركاتها وأحزابها من هؤلاء الأقليات.

إنفصال-كتالونيا-عن-إسبانيا
وبرزت في الصحف المحلية والعالمية مقالات كثيرة عن ذلك. وانبرت أقلام تسند المواقف المتباينة وتساندها في هذه الجهة أو تلك. وفي هذه الدولة تحديداً أو تلك. وفي هذا الاقليم أو ذاك. وفي الشرق، مثلما هو في الغرب. وكانت حوافر الخيل تدوس الفقراء، وتذهب سنابكها بهم. بينما كان الأغنياء يلتمسون الأكناف الوارفة والأكتاف العريضة، لدرء المخاطر وتحاشي المزالق. والامتناع عن دفع ضريبة الانفصال، أو دفع ضريبة الوحدة لا فرق.
إن مظلومية الأقليات في ظل الإمبراطوريات، لمما أحفز ظهور الدول المستقلة، وهذا لا شك فيه، فمن المواجهة العنيفة، مع الجيش البريطاني تحقق الاستقلال التدرجي لإيرلندا، عدا مقاطعة الشمال. ووقفت دبلن، قبالة لندن عالية الجبين، بلا طأطأة، واستعادت الدول الشرقية في أوروبا بعد انهيار الحرب الباردة الأميركية السوفياتية، حدودها الكيانية التاريخيّة. وماذا عن تأثير هذه الدينامية الانفصالية، على مستقبل اسكوتلندا وكورسيكا وشمال إيرلندا وربما شمال إيطاليا (لومبارديا) وفلامان في بلجيكا وترانسيلفانيا في رومانيا.

uk_1_
وربما شجع قيام الاتحاد الأوروبي مطالبة الكيانات الصغرى داخله بالاستقلال. وبالمقدار ذاته، ربما جعل بريطانيا تقدم على طلب الخروج منه وتستفتي شعبها وتفضل “البريكزيت” عليه. وربما كان ذلك من أسوأ اقدار الاتحاد الأوروبي، حين تتراجع دوله عنه.
وجمعت الصدفة الزمنية بين استفتاءين على الانفصال في الشرق والغرب: استفتاء اقليم كردستان شمالي العراق، واستفتاء اقليم كاتالونيا الإسباني. وبررت جماعات الانفصال والاستقلال، الخطوة الانفصالية التي دعت اليها وخطت نحوها. غير أن في الأفق حسابات أخرى: أثمان الانفصال الباهظة عن الكيانات التاريخيّة. فلا وداعة ولا موادعة في أطر العلاقات التاريخيّة، بل استلاب واستلاب مقابل.
وشهد لبنان على التجربة ذاتها. وعاش أوارها ولظاها واكتوى بحرها ونارها. ثم عاد عنها صاغراً وارتد إلى نحر الوطن وحضنه الدافئ. فلا بديل عنه ولا بديل عن المواطنة. كذلك فإن تجربة الانفصال في السودان، لم ترحم الشعب السوداني لا في شماله ولا في جنوبه. والتي وصفها جهاد الزين “بالتجربة الوخيمة التي انتقلت من حكم توحيدي عسكري استبدادي، إلى حكم عصابات متوحشة” (النهار 20/10/2015). إنه انتقال بالنار من زاوية إلى زاوية. فما بالنا لو انتقل جميع المواطنين، في العالم إلى مفهوم المواطنة وارتاح الأقلويون الطامحون إلى الاستقلال والانفصال، والأكثريون المتمسكون بكل جبروت ورهبوت الوحدة الكيانية.

(الأنباء)

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث