أفضلية المرور

د. قصي الحسين

كنت أفضل أن تمر ذكرى لغازي قهوجي وأنا ناعم البال: المخرج والسينمائي والمسرحي والأستاذ الجامعي الفذ، ابن مدينة صور العريقة، التي إذا كانت قد أنبتت في الماضي قدموس وقرطاج وأوروب، ووقفت شامخة عنيدة عناد الموج الذي يتكسر على سورها وسور قلعتها في وجه الاسكندر وردّته خائباً، فإنها ما أنبتت من بعد قامة غازي قهوجي، قامة بعد.

وكنت أفضل أن تمر ذكرى لعادل فاخوري وأنا هانئ النفس: الفيلسوف المختلف والعالم المختلف والباحث المختلف والشاعر المختلف: (صاحب القصيدة الالكترونية)، والأستاذ الجامعي المختلف، الرحالة في طلب العلم، في أشد أوقاته ضيقاً، وجوّاب الآفاق في أشد أوقاته حاجة، والإنسان الإنسان في أشد حالاته عرياً من الدين والدنيا، ابن صور بطقوسها المتعددة، والتي لم تلد بعده من رحمها طفلاً متعدداً، ولا روحاً متعددة، ولا شاباً متعدداً ولا باحثاً أو رجلاً متعدداً.

وكنت أفضل أن تمر ذكرى لموسى وهبة وأنا طيب النفس: الفيلسوف البسيط ابن الفلاح البسيط، وذي الثوب البسيط، الواحد والقديم، كأنه أراد أن يتخذ منه دثاراً طيلة حياته للوحدانية والقدامة. ابن بلدة “الشيخ طابا” أم “مار طابا” أو “الشيخ مار طابا” فلا فروق إلا طفيفة في معيار نفسه، التي تستولد اللحظة من اللحظة التي سبقتها، وتبتدع الفكرة من حقول الجفاف، وهو يرى إلى سهل عكار الأخضر، كيف يجففه الإقطاع القديم الجديد من عرق الفلاحين.

وكنت أفضل أن تمر أزمة النازحين السوريين المفتعلة وأنا غريق بردى والعاصي والفرات وعين الفيجة والزبداني وطبريا وبحيرة حمص وسد الرستن وسدّ القامشلي ودير الزور، فلا أخلط بكاءً ببكاء، ولا أختنق بأصوات النازحين في عرسال والبقاع وعكار والجنوب، وطرابلس وبيروت وصيدا والإقليم والشوف والمتن وجبيل والبترون، ومادح من هنا وقادح من هناك، كأننا في مسارح البصرة أو كناسة، بعد ضياع البصرة وكناسة.

وكنت أفضل أن تمر “أزمة قطر”، اقله دون أن أسمع الرئيس الأميركي المتهم بالشعبوية، ينادي علينا بالفم الملآن: “عشرة دول مستعدة لتقديم بديل عن قاعدة “العديد” (الحياة 15/1/2017)، ويضيف ممعناً فينا: “إذا اضطررنا أن نرحل من القاعدة العسكرية “العديد في قطر”، فهناك عشر دول مستعدة لبناء قاعدة أخرى لنا، وليس علينا أن ندفع أي شيء. صدقني هم سيدفعون الكلفة أيضاً”، ثم يتحفنا بقوله: “بأن العلاقة ستكون جيدة مع قطر، وليست هناك مشكلة حول القاعدة العسكرية، إنما إذا احتجنا إلى قاعدة أخرى، فهناك عدة دول ستبنيها لنا بسرور”.

وكم كنت أفضل أن تمر ذكرى الذؤبان المنفردة، وآخرها “ذئب منفرد” في الغردقة، على بالي، دون أن أُرمى أنا وأمثالي بالسهام التي، ضلت طريقها إليها والى من أرسلها وموّلها وأخرجها في الليل وفي النهار، وأرادت النيل منّا عرباً ومسلمين وإسلاماً. وقبل تصريح الرئيس ترامب، كانت الذؤبان تخرج في الليل إلى الملاهي، أما بعد تصريحه فأخذت تخرج في النهار إلى المسابح، وعلى عينك يا تاجر. أما موديل الأبراج المحترقة، أبراج الموت، فهي من نسيج برجي البورصة والتجارة في نيويورك. والسؤال: ماذا يريد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي من “يوم وصوله كانت له شمعة على طوله”، فدفعنا عن أنفسنا فدية النفس له أربعمائة مليار دولار!!

وكنت أفضل أن تمر الذكرى الثالثة للعسكريين المخطوفين على بالي: في عرسال البلدة المنكوبة بداعش والنصرة والمبتلية بالأجهزة والمتعاملين، بلاء “باب التبانة وبعل محسن” سابقاً بها، دون أن نرى نسوتنا يفترشون الأرض في “رياض الصلح” ينادين علينا “يا لعمرو” ويسجلن رفضهن استمرار المماطلة. فيضطر حسين يوسف مثلاً منتصراً لهن: والد العسكري المخطوف محمد، والذي لم يفقد الأمل حتى الساعة بلقاء ابنه، ووجهه يتغضن غضباً ممتزجاً بالمرارة والحزن واليأس والتوتر ويجهر بأعلى صوته باصقاً: “أنا ابني لا ينشق. وخسئتم أن ينشقوا. هذا مستحيل ولا يمكن أن نخون أرضنا”. ويتابع قائلاً: “في قلوبنا غصة، لكننا لسنا ضعفاء. ونستطيع أن نجمع كل الناس في الساحة عندما نناديهم لكننا لا نريد أن تفلت الأمور من أيدينا” (الحياة 15/7/2017، ص 5).

وكنت أفضل أن تمر ذكرى “آستانة” السادسة أو السابعة لا فرق، ولا تسارع طهران أن تعتبرها نموذجاً لحلول إقليمية. ولا تمهد روسيا لبقاء قواتها في سورية، ولا تعلن عزمها على تعزيز البنى التحتية لمنشآتها العسكرية والجوية في سورية، بهدف تحويلها قاعدة تواجد طويل الأمد. وكذلك لا تسارع واشنطن لاقتطاع منطقة “التنف” وتجعلها قاعدة عسكرية لها. ولا تسارع طهران وتعلن عن توطين قواتها في حلب وفي ريف دمشق وفي القلمون والغوطة، ولا ترسم من بعيد مشتهاها في هلال فارسي، مقابل هلال عربي، مثل خليج فارسي مقابل خليج عربي.

وكنت أفضل أن لا يشارك “الحشد الشعبي في الاحتفال بتحرير الموصل، فتدرس المعالم التي عجزت داعش عن درسها طيلة ثلاثة أعوام، وتُباد الأُسر وتهدم منازلها فوق رؤوسها بحجة البقاء في دولة داعش. ويطأ الداعشيون الجدد على رقاب الشرفاء الناجين من الدواعش، ويبقرون بكل قسوة بطون النساء. كنت أفضل أن أرى رئيس وزراء العراق حيدر العبادي أن يوكل للجيش وحده أمن المدينة المنكوبة، أمن الموصل، التي تصل بين الناس جميعاً تركاً وفرساً وعرباً. فترتيب أوضاع المدينة، لا يكون وراء الحشد. بل يكون مانعاً للحشد من الاقتراب من أموال الناس وأعراضها، كما جرى في “فتح مكة”: وقف النبي الأعظم ونادى على الناس: من دخل منكم بيته فهو آمن، ومن دخل منكم البيت الحرام، فهو آمن، ومن دخل منكم بيت أبي سفيان فهو آمن!

أراني أحتشد بعد ذلك كله، على أوراقي، وربما قبل ذلك كله، بتجدد مخاوفي من قيام سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك، في القدس المحتلة، في أعقاب هجوم الفتية الفلسطينيين من أراضي 48، فأنتج مقتلة وأدى لاحقاً إلى إغلاق الأقصى الشريف للمرة الأولى منذ عام 1969، أمام صلاة الجمعة. وباتت البلدة القديمة تحت الحصار، والمسجد الأقصى “رهينة” في قبضة الاحتلال بعد التجرؤ الإسرائيلي على إغلاقه للمرة الأولى منذ 800 سنة، ومنع الصلاة والأذان فيه، وتفتيشه، بعمليات بحث واسعة في مرافق الأقصى من مصليات ومكاتب ومكتبات.

وإذ يهيب مفتي القدس والديار الفلسطينية الشيخ محمد حسين، بالعرب والمسلمين، بأن يتخذوا المواقف لحماية الأقصى ولجم الاحتلال ومنعه من اتخاذ اجراءات ضد المسجد، فإن مدير المسجد الأقصى الشيخ عمر الكوافي يقول إن شرطة إسرائيل أجرت عمليات تفتيش واسعة تخللها تكسير أبواب وعبث بمحتوياته، علاوة على تفتيش مسجد قبة الصخرة خمس مرات، وباتت الساحات لأول مرة منذ 800 سنة فارغة من المصلين.

لهذا إذن، يكون أفضلية المرور إلى أسماعنا وعيوننا وقلوبنا ومهجنا وأفئدتنا ونفوسنا وأوراقنا أيضاً، وإذاعاتنا وأصواتنا، فلندب الصوت، صوتاً واحداً في وجه قادة إسرائيل، وقادة العالم الذين يعضدونها في عدوانها الصارخ على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف. هنا بيت القصيد، فليسمع العالم كله!!

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث