مسقاوي يروي سيرة الذات والآخر: “في صحبة مالك بن نبي”‎

د. قصي الحسين

إضافة إلى تدرجه كمحامٍ ناجح منذ مطلع ستينيات القرن العشرين، بدت نشأته الأزهرية غالبة عليه سياسة وسماحة وسلاسة وسيامة. إذ عرف عمر مسقاوي الشاب الجامعي الطرابلسي، الموفد إلى الأزهر الشريف لطلب العلم، بالوسامة والدماسة بين أقرانه من الطلبة الأزهريين. وهو الطلعة، ينظر إلى السياسة ككسب ثقافي – حواري مختلف، يستعين على إثباته بعاملين أساسيين هما من صلب تكوين شخصيته اليافعة: سماحة الخلق، وهو نادر في جيل الشباب، وسلاسة اللسان وهو أندر في جيل المبتدئين من المتعلمين والمتدربين والمثقفين البادئين حديثاً في درب الثقافة الوعر.

ليست كثيرة الأعمال الأدبية والمواقف التسجيلية السياسية، التي تنتمي إلى ما يسمى بـ”الديستوبيا” والتي تعني بشكل مختصر إعادة كتابة الإبداع لكتابة التاريخ، ليس كما حصل بالفعل، بل بصورة مغايرة تماماً لما حصل ودونته المصادر التاريخية، إن كان مغرقاً في القدم، أو عايشناه بأنفسنا، إن كان أكثر راهنية. غير أن الباحث والمحامي الأستاذ عمر مسقاوي استطاع باحتكاكه الثقافي والمعرفي والإسلامي بشخصية “مالك بن نبي”، أن يولي بعنايته الخاصة هذه الثقافة المناضلة والمجاهدة الوافدة إليه على مدارج الأزهر الشريف مع صاحبها الآتي من الجزائر إلى القاهرة في مهمة تنويرية، فيأخذ بها رأساً ونفساً وهيكلاً، منذ اليوم الأول للقائه بمالك بن نبي وقراءته واقفاً على المنبر الجامعي الأزهري الإسلامي، في صورة مغايرة للخطباء وخطبهم الذين تداولوا هذا المنبر قبله، منذ حين.

دامت صحبته لمالك بن نبي حياً زهاء عقد من الزمن شكلت حقبة ثقافية ومعرفية هامة بين بن نبي ووريثه الثقافي الإسلامي المحامي المختلف عمر مسقاوي. ساحل متوسطي اسلامي بدأ بالجزائر بشخصية مالك بن نبي، ولم ينته بلبنان بشخصية عمر مسقاوي، لأن الخطاب الإسلامي المتجدد، كان يعبر النفوس، من الأوراق إلى الندوات والمنابر والمجالس والأندية والحلقات، حتى لأستطيع أن أقول جازماً غير متعصب، أن كل الثقافة الإسلامية الناشئة منذ الستينيات من القرن العشرين وحتى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، غذت نفسها، مما كانت تفيء إليه في تلك الواحات التي تخضل لها نفوس الشراح الاسلاميين العطشى إلى المختلف، لا القديم المتآكل.

اشتهر الأستاذ عمر مسقاوي، كمحامٍ منذ 1961 وعضو ورئيس لجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية ومؤسساتها التربوية في طرابلس وعضو في كل من المجلس الاستشاري لمفتي الجمهورية اللبنانية (1964 – 1966) والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى منذ 1967، ومجلس بلدية طرابلس (1979- 1990) ونائب في المجلس النيابي (1992 – 1998) ووزير للأشغال والنقل في وزارة الرئيس رفيق الحريري الأولى والثانية والثالثة. كذلك اشتهر بما ترك من كتب وندوات: نظرات في الفكر الإسلامي ومالك بن نبي. والعالمية ورسالة الحضارة والثقافة في فكر مالك بن نبي. ووحدة الحضارة. وآراء إسلامية في قضايا معاصرة، وبنية المجتمع ومسار الدولة في لبنان، ورؤى ثقافية وفكرية وسياسية في مسيرة القرن العشرين، في صحبة مالك بن نبي (1 -2)، فضلاً عن ملازمته مالك بن نبي منذ العام 1956. وقد عهد إليه وصياً على تراثه المكتوب باللغة العربيّة منذ وفاة مالك بن نبي عام 1973 وقد افادنا الباحث عمر مسقاوي بذلك في ورقته التي صدر بها كتيبه: “منهجية التغيير عند مالك بن نبي” والذي أصدرته له دار الفكر في العام 2016، والذي يتأسس على فكرتين كما رآهما مسقاوي نفسه: 1- فكرة كومنولث إسلامي. 2- فكرة الافريقية الإسلامية.

ولا شك في أن مجال إبداع الأستاذ عمر مسقاوي الرئيس، كان الكتابة لأعمال مالك بن نبي. فهو في هذا المجال أبدع عدداً لا يستهان به من أعمال لم تحقق له شهرة فائقة في واحد من أكثر الأزمنة العربيّة والاسلامية صعوبة في العقد الثاني والثالث من القرن العشرين وهي مرحلة الناصرية في القاهرة ومصر والعالمين العربيّ والاسلامي فقط، بل أسبغت جديداً على ما يمكننا تسميته تيار الإسلام السياسي بطابعه الجهادي والنضالي في حقبة كان هذا يضمحل لمصلحة التيار القومي العربيّ الأكثر ايديولوجية ونخبوية. ولئن كان مسقاوي كتب أبحاثاً عديدة حول أدب وفكر وإسلام وجهاد ونضال مالك بن نبي، فإن تميزه الأساسي كان في عملين أساسيين، أولها:

1- ترجمة وإصدار جميع أعمال بن نبي تقريباً مفردة وفي خزانة أنيقة ينوء البعير عن حملها كما توصف أعمال الخالدين من المبدعين المكثرين أمثال الجاحظ والتوحيدي.

2- وضعه كتاب: “في صحبة مالك بن نبي”، وقد غدا بعد إصداره قضية كل مثقف إسلامي طموح للسير في دروب اسلام جديد، يريد أن يغرس قصبة في حارات التحرير: عقولاً وإرادات وثقافات وساحات في مسيرة الذات قبل مسيرة الآخر.

أما أوج قوة مسقاوي في هذين العملين، فتجلى حين كانا يختلطان لديه. فنراه يستأنى حين يكتب بحثاً عن كتاب محدد من كتب مالك بن نبي، عند الجانب السياسي أو الإسلامي أو النضالي الجهادي الإشكالي من حياة بن نبي وفكره التنويري الذي يلامس ذات مسقاوي الساعية إلى الإصلاح الإسلامي بمنهج أخلاقي تتصالح فيه الذات مع الآخر، حتى لتشكل منهجاً مغايراً لما يعرف بين المناهج الحديثة المتبعة لدى الباحثين التغييريين فيختلط التاريخي بالذاتي، والعكس يصح أيضاً، بحيث لا نعود نميز بين عالم مضى بدفاتره وأوراقه، وعالم يورق من خلال هذه الدفاتر والأوراق. وبين العمل الكثير والعمر القصير، يقف مسقاوي شاهداً على تحولات مثقف إسلامي مجاهد، ينوء كتفاه بإسلام أسير، يحمله إلى فضاءات جديدة: فضاءات التحرير والتغيير. ويبقى السؤال يقرع صدور القراء أيهما النافح وأيهما الشارح، وهما في بوتقة من التوحد والانصهار، حتى حدود التجديد.

وإذا كان العالم كله يعرف من هو مالك بن نبي، صاحب المؤلفات التي نافت عن الخمسين، فإن تعريفاً سريعاً من عمر مسقاوي يفرض نفسه هنا، في ساحات هذه المؤلفات السمان حيث يقول مسقاوي تحت فقرة: “خطتنا في تنفيذ المهمة”: “بعد وفاة بن نبي في 1973، بدأت بتنفيذ وصيته.. وكانت أمامي مشكلة النشر” (1/ 28)

ويقول مسقاوي أيضاً: وإنني أقدم شهادتي في صحبتي لمالك بن نبي وفكره بالوثائق والأوراق التي كما زالت محتفظاً بها والتي كتبتها في حياته، وكان هذا هو الأوفى بهذه الصحبة” (1/29)

جعل مسقاوي عناوين سريعة لصحبته مالك بن نبي: 1- المرحلة الأولى: بن نبي في الجزائر. 2- المرحلة الثانية: بن نبي المهاجر/ مرحلة القاهرة/ فكرة الإفريقية الأسيوية. 3- المرحلة الثالثة: بن نبي العائد إلى الجزائر. من عام 1963 إلى عام 1973.

ويختم مسقاوي: وفي هذا المسار مع بن نبي لخمسين عاماً مضت على صدور كتاب (حديث في البناء الجديد)، وفيه جمعت محاضراته في زيارته لبنان وسورية صيف 1959، أضفنا كثيراً من الهوامش التي تضع القارئ في إطار ما اقتضى ذلك، تعريفاً وفهماً ومتابعة لفكره، كما أعطينا من شهادتنا الشخصية، ومن المستندات والوثائق، ما يمنح قارئ بن نبي المجال الأوفى لدراسة فكره، ولتعبئة نفسية وروحية لعالمنا العربيّ والإسلامي، في بناء جديد باتجاه الحضارة، التي وضع تحت عنوانها حياته وفكره ورسالته (1/ 31 – 32).

فهل توحد مسقاوي نفسه في هذا العنوان، حياة وفكراً ورسالة، فصار بن نبي ومسقاوي روحين لقضية إسلامية واحدة، عنوانها: “بناء جديد باتجاه حضارة”. أزعم أن كتاب: “في صحبة مالك بن نبي” وهو مؤلف من جزأين في أكثر من ألف ومئتي صفحة، إنما يشي بذلك، بكل أدب وأمانة ورسالة.

(الأنباء)

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث