صناعة التاريخ بين جمال و«الأسدَين»!

اسعد حيدر (المستقبل)

28 أيلول 1970. مات جمال عبد الناصر وهو يصل الليل بالنهار، لإنقاذ منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيسها ياسر عرفات، والمحافظة على السلم العربي والاخوّة العربية. بعد 47 سنة، ما زال جمال عبد الناصر، حيّاً في الذاكرة الشعبية العربية. لا بل أصبح أكثر حضوراً، بعد أن تمزّقت الأمة العربية، وضاعت أوطاناً، وأصبحت قوى كانت ملتزمة قومياً وعروبياً، فإذا بها اليوم، ملتزمة بقيادة غير عربية، وعلى عداء مع العروبة باسم الإسلام المذهبي!

لن يقوم جمال عبد الناصر، ولن يعود الى الساحات واقفاً كالرمح، هادراً مثل مياه السد العالي وهي تملأ «بحيرة ناصر». ليس المطلوب أن يعود جمال ولا حتى أن يُقال: «ماذا لو كان هنا بيننا». لكن على الأقل يجب قراءة الصفحات الإيجابية التي خطّها طوال سنوات، وذلك في محاولة لتصحيح المسارات التي قادت وتقود هذه الأمة نحو مستنقعات الحروب المنتجة للتفتت على طريق الاندثار.

قوة جمال عبد الناصر، أنه وصل الى السلطة بالبلاغ رقم واحد. لكنه في خلال سنوات قليلة، نجح بتحويل الانقلاب الى ثورة غيّرت المجتمع المصري أولاً، وزرعت في المنطقة من المحيط الى الخليج الأمل بالوحدة والقوة والاستقلال والسيادة. تحالف جمال مع الاتحاد السوفياتي، ولم يتحول الى تابع أو ملحق له. عرف كيف يهندس التوازنات، وتفوق مع تشكيل «ترويكا» تضم معه الزعيمين تيتو ونهرو.

لم يحرّر فلسطين، وخسر حرب 1967، لكن عبد الناصر أعاد بناء الجيش المصري لاستعادة الأراضي المصرية والسورية. لم يعش حتى يعيش لحظة تحرير سيناء ولكن جنوده وضباطه هم الذين حرّروا بعد أن تقدّمهم الشهيد الفريق عبد المنعم رياض.

لم يكن جمال عبد الناصر «قديساً»، ولا شك أنه ارتكب أخطاء منها الفادحة. لكنه بالتأكيد لم يرتكب خطايا. عاش ومات من دون أن يلوث يديه بالمال، ومن دون أن يورّث أولاده شيئاً سوى اسمه. لم يضع واحداً منهم وفي مقدّمهم خالد على طريق السلطة. بالعكس كانت تربيتهم قاسية، حتى لا ينزلقوا نحو فكرة الوراثة.

على الضفة الأخرى سوريا، كان الضابط الطيار حافظ الأسد يهيّئ نفسه ويعمل ليل نهار من أجل السلطة، ومن أجلها بذل الغالي. عام 1967 وفي عزّ حرب الأيام الستة، وكان وزيراً للدفاع وقائداً للطيران، أمر بسحب الجيش السوري وأعلن سقوط القنيطرة قبل أن تسقط. وعندما سأله صلاح جديد عن مسؤوليته في ذلك بعد أن أنتجت سقوط الجولان المبكر، أدار «أذنه الطرشا» كما يُقال. حتى إذا جاء العام 1970 امتنع وهو وزير الدفاع في تقديم التغطية الجوية للقوات البرية السورية التي وجّهها صلاح جديد لمساعدة الفلسطينيين في أيلول الأسود. وكان كل ذلك، «مفتاحه الذهبي» لإبعاد صلاح جديد من السلطة وسجنه حتى وفاته باسم «التصحيح»، وتسلّمه السلطة في سوريا، وتأكيد سلطته عليها «بالحديد والنار» وما مجزرة حماة سوى قمة المجازر التي ارتكبها.

طوال ثلاثة عقود من السلطة عمل حافظ الأسد على توريث سوريا لابنه باسل أولاً ثمّ لابنه بشار. وإذا كان حافظ الأسد بكل الدهاء الذي عُرف به وعنه، نجح في أن يكون مثل «المنشار» يأكل من «خشب» علاقاته العربية والإيرانية، فإن ابنه بشار، وضع كل سوريا في أحضان إيران حتى صارت «رهينة» لها ومن ثم لروسيا، حيث الآن ولسنوات طويلة ستعيش سوريا في قلب التنافس والتزاحم الروسي – الإيراني على كل شيء من النفوذ الى القواعد الجوية والبحرية وصولاً الى الاقتصاد والمناجم مثل الفوسفات والثروات مثل النفط والغاز والأهم مستقبلاً أنابيب الغاز المتّجهة الى أوروبا.

مصر ما زالت قائمة، رغم غدر وإرهاب «داعش» وأخواته. بينما سوريا انتهت. لا أحد يعرف ماذا وكيف ستكون سوريا، تماماً مثل العراق، الذي يخرج من حرب ليدخل أخرى، منذ أن تسلّم قيادته صدّام حسين.

اليوم، عندما ينهض جمال عبد الناصر من قبل الذاكرة الشعبية، فإنما لأنه «أزهر» في حياته حلم الوحدة العربية، وكاد جيل كامل يعيش الحلم وكأنّه مثل «النهار خلف شباكنا». جمال عبد الناصر ارتكب أخطاء وهو يعمل من أجل الوحدة العربية، لكنه على الأقل نجح في مواطن كثيرة.

اليوم، والعراق يعيش على وقع التمزق والتحول الى دولتين وربما غداً الى ثلاث دول فإن المأساة تتعمق، خصوصاً أن العراق بداية وليس خاتمة. حلم الوحدة يكاد يتبدّد إن لم يكن تبدّد في زمن التقسيم وقيام الكيانات الصغيرة. جمال عبد الناصر لن يعود. وصدام حسين لم يبقَ منه سوى ابتسامته وهو يتقدم من حبل المشنقة. وحافظ الأسد، لم يعد يتذكّره أحد إلا كونه فرض السكون على الجولان، وصيغة «شعب واحد في دولتين»، وأنه أورث سوريا لابنه بشار فلم يترك برميلاً متفجراً ولا سلاحاً كيماوياً إلا وعمل به لإخضاع السوريين، ورغم ذلك لم ينجح حتى مع استقدام الروس وكل الميليشيات الإيرانية.

.. وكتابة التاريخ ما زالت في بداياتها!

اقرأ أيضاً بقلم اسعد حيدر (المستقبل)

ماكرون «يعرج» في الشرق الأوسط

«ڤتنمة» لبنان؟

خامنئي: الاعتدال أو «السورنة»!

غياب رفسنجاني.. والفراغ الكبير

الإرهاب الجديد.. قادم

إيران بين القلق والتصعيد والمصالحات!

بوتين «قيصر» العالم!

الخطة «ب» الأسدية إنشاء «دولة علوية»

ماذا بعد قمّة كامب دايفيد؟

«الإمبراطورية» تتقلّب على النار الكردية!

ذاب الثلج.. وبانت معركة القلمون!

إيران «مهمومة» باليمن و«مأزومة» في سوريا

العبور على.. «جسر الشغور»

فرنسا.. الفراغ والعجز

اليمن وسوريا وإيران بينهما !

«البوسطة» والاستقرار.. و«الطائف»

الحرب السعودية ـ الإيرانية الواسعة والشرسة

ماذا بعد الاتفاق؟

المنطقة ولبنان بين «نسيم» لوزان و«عاصفة الحزم»

المنطقة ولبنان بين «نسيم» لوزان و«عاصفة الحزم»