الأنظمة الكلية والديمقراطية الفردية/ بقلم كمال جنبلاط

أحاديثنا في هذه الأبحاث تتعلق إلى حد كبير بالعالم العربي المحيط، وبالأنظمة القائمة فيه. وللأسف فإن معظم القيمين على معظم الأنظمة في العالم العربي، يتناسون أن هناك علماً للحقوق الدستورية وتطورها عبر التاريخ، وللمؤسسات والتيارات الديمقراطية.

والتاريخ لا يمكن أن ينفصل عن تشوفنا لهذه المؤسسات وتصورنا لها، ومحاولة تحقيقها عملياً.

أ- تحديد الكلمات والمفاهيم

يأخذون في الأحزاب، وفي مختلف الايديولوجيات، مفاهيم ويلقون بها على أشياء لا تنطبق عليها إطلاقاً. وفي الحقيقة هناك لون من التضليل، بدأ منذ القديم، في هذا الحقل، أي ربما في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. لأن كل عقيدة جديدة تحاول أن تدافع عن نفسها وعن وجودها وضرورتها في الوجود، تسعى دائماً لأخذ المفاهيم المعاكسة، تستعيرها وتدخل إليها معاني جديدة، كفكرة الديمقراطية مثلاً.

الديمقراطية في الحقوق الدستورية لها مفهوم معروف تماماً ومحدد وجرى توضيحه في مئات المؤلفات. وفي كل مدرسة للحقوق تحترم نفسها، توضح هذه المفاهيم وتاريخ نشأتها وتطورها وكيف تحققت، والأنظمة التي تحققت بها، وكيف سعت هذه الأنظمة إلى تحقيقها أيضاً؛ لأن هناك تاريخاً أيضاً للأنظمة، فما من شيء جامد إلا وينزع إلى تطوير ذاته.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين بشكل خاص، ولدت المفاهيم الإشتراكية الماركسية، فأخذت بطبيعة الحال تستعير من الديمقراطية الفردية التي سبقتها بعض المفاهيم، مثلاً، فكرة الديمقراطية نفسها؛ وهذه الفكرة كما تحققت في الأنظمة الشيوعية، هي مناقضة تماماً للمفهوم الديمقراطي، كما برز في الدول الغربية الأوروبية أو في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من دول آسيا كالهند…الخ.

والديمقراطية الشعبية تناقض تماماً جميع ما ارتكز عليه تحديد الديمقراطية في معناها الاصيل. فكان من الطبيعي، أن تأتي هذه الأيديولوجيا الجديدة وتستعير من مقابلها وخصمها وضدّها بعض هذه المفاهيم وترمي بها في السوق، ولكن بمحتوى جديد غير المحتوى الأصيل.

لهذا السبب أصبح من الضروري، ليس عندنا فقط، بل في جميع أنحاء العالم، أن تُحدد الكلمات بمعانيها، وإلاّ أضحينا “كبرج بابل”، نتحدث عن الديمقراطية ولا وجود للديمقراطية، نتحدث عن التقدّمية ولا وجود للتقدُّمية، وكذلك نتحدث عن القيم الروحيّة ولا وجود لهذه القيم في هذا المجتمع أو في هذه الدولة.

ب- الأنظمة الكلية والفردية

سأركز بحثي على الأنظمة الكلية الجماعية، والأنظمة الديمقراطية الفردية، لأنه من خلال تاريخ الفكر والمؤسسات لا يمكننا إلاّ أن نركز على الظاهرة التي قامت في أوروبا كالفاشستية والنازية والشيوعية والنقابية وغيرها.

ج- قطبا جدلية الوجود الإجتماعي هما الفرد والجماعة

   التفاعل قائم ودائب بين الفرد وهذا الكائن المعنوي الذي نسميه الجماعة، أي بين الفرد ومجموع الأفراد والفكر البشري، وهو يُعطي لمجموعة الأفراد شخصية معنوية غير شخصية الفرد. فهنالك فرق بين الشخصية الحقيقية، التي هي شخصية الفرد، وبين الشخصية غير الحقيقية، أي الشخصية المعنوية التي هي شخصية الجماعة. فلا نستطيع أن نرى جماعة تسير على ساحة البرج مثلاً، بل نرى شخصاً يسير لأنه شخصية حقيقية واقعية.

د- صراع الفرد والجماعة قطبا جدلية الوجود الإجتماعي

التاريخ كله يدور حول سيطرة الجماعة على الفرد، أو تحرر الفرد من هيمنة الجماعة. وطالما في قطبي جدلية الوجود الإجتماعي، وأصلها الفرد والجماعة، فمن الطبيعي أن يسيطر أحد الأضداد على الآخر في مراحل مُعينة، أو- وقد تم ذلك لفترات قصيرة جداً من الزمن- إيجاد وضع متوازن متناسق بين الفرد والجماعة، أي بين حقوق الفرد وموجباته، وبين حقوق وموجبات المتحد الإجتماعي؛ لأنه  من الصعب أن يبقى الإنسان في هذا الإنسجام، فهو يتطلب جهداً كبيراً، ولأن الانسجام في طبيعته قابل للتحول في أي حين، لأنه عندما ننتقل من إنسجام لانسجام آخر، علينا أن نخرب الإنسجام الأول حتى نستطيع أن ننتقل عبر صيرورة معينة من عدم التوازن إلى انسجام تام.

هذه دائماً خطة الطبيعة، لا نستطيع أن ننتقل من انسجام إلى انسجام مباشرة. فيجب أن يهدم الإنسجام الأول، يعني أن يصيب المجتمع لون من المرض، كالمرض الذي ينتاب جسم الإنسان من انعدام التوازن لفترة، لكي يحصل صراع بين أحد الأضداد والآخر، إلى أن نخرج إلى تهيئة انسجام جديد. لكن هذه الفترات من الانسجام قليلة جداً في تاريخ البشرية.

ه- تميّز الأنظمة السياسية

وهكذا تتميز الأنظمة السياسية، بالنسبة لهذه المعايير، الفرد والجماعة؛ فالأنظمة السياسية الجماعية، قبل تكوين مفهوم الأمة الحديث، جعلت هيمنة الجماعة قائمة على الفرد، أكانت الهيمنة قبلية أم اقطاعية، أم ملكية مطلقة الصلاحية.

 الأنظمة السياسية ذات الطابع المساير للفرد، المبرز لحقوق الفرد، والتي عرفت بالديمقراطية في العهد القديم، لأن الديمقراطية ليست كلمة جديدة مخترعة، فقد اخترعها اليونان، أو حتى من كان قبلهم، فداموس، أي الجمهور أو الجماعة هي كلمة يونانية. هذه الديمقراطية التي عُرفت في العهد القديم، كما ذكرت، كانت في المدن الفينيقية مثلاً، وفي دول المدن اليونانية على وجه الخصوص، حيث بلغ مفهوم الديمقراطية أوجه بالانتخاب المباشر وفي ضمان حقوق المواطن..

وفيما بعد، في الجمهورية الرومانية، وتتذكرون كلمة مار بولس عندما جاءوا ليحاكموه، فقال لهم: “أنا روماني، لا يمكن ان تحاكموني هنا، بل في رومية أمام المحكمة المختصة”. فكان هناك ضمان للحقوق وللمواطن في هذه الأنظمة. وهذه الأنظمة السياسة جعلت الفرد يتحرر إلى حد كبير من هيمنة الجماعة المطلقة عليه.

وفي هذا المجال يجب ألا ننسى، كما يوصي بذلك توبيني Toynbie، أثر وفضل الديانات شبه الكونية، كالبوذية والمسيحية والإسلام، في عتق الفرد من مفاهيم الديانات الإقليمية إو القطرية المحدودة ذات الطابع الإجتماعي والجماعي المهيمن على الفرد.

و- بروز الأمة القومية

وعندما تكوّن مفهوم الأمة والدولة في العصور الحديثة، لأن هذه كلها مفاهيم جديدة، وتحدد معنى الطبقة الإجتماعية بالمعايير العصرية، وبرزت فكرة القومية- وهي أيضاً فكرة جديدة لم تتعرف عليها الشعوب القديمة- كفكرة قوة في المجتمعات الحديثة، برز تصور الأنظمة الجماعية الكلية، أو الطبقية الكلية، كالأنظمة القومية والنقابية والنازية والفاشية، والأنظمة الطبقية الشيوعية، والأنظمة النقابية المشتركة، في البرتغال (سالازار) واسبانيا (فرانكو) وهنغاريا (الأميرال هورتي) وإلى حد أقل في التصور الكلي الجماعي في نزعته للتمثيل الديمقراطي ولتقليد الغرب، كنظام اتاتورك في تركيا.

 كل هذه الأنظمة ذات مصدر واحد، فصائل من فصيلة واحدة، فصيلة تغليب المجتمع على الإنسان، تغليب استقطاب المجتمع للإنسان على حقوقه الفردية وحرياته الشخصية.

   قام هذا التيار في مواجهة التيار التاريخي والفكري الذي نما في اتجاه الديمقراطية الفردية في الغرب، ونرى جذوره وتحقيقات له في بريطانيا العظمى منذ أجيال وقرون، وفي أسوج ونروج في شمال أوروبا، ومن ثم في الثورة الفرنسية والثورة الأميركية. لأنه من الطبيعي عندما يقوم تيار ويحاول ان يتغلب، أن يقوم تيار آخر في معاكسته، كسلك التيار الكهربائي، فعندما يجري التيار يكون هناك تيار معاكس له induction، وعندما نوقف التيار الأول يجري التيار الثاني بشكل معاكس، ولو لفترة جزء صغير من الثانية. فكل فعل يجب أن يقابله انفعال، جدلية التضاد تفرض هذا الشيء؛ لأنه كما سبق وقلت، فيما عدا قواعد الطبيعة فليس من الواقعي أن يعم نظام واحد للكون، أو أنظمة المساواة، بالنسبة لتاريخ الأفكار والمؤسسات.

ز- الأنظمة الديمقراطية الفردية

 الأنظمة الديمقراطية الفردية التي جاءت ردة على الملكية المطلقة في فرنسا وعلى نظام الاقطاع السياسي الجماعي الذي كان يهيمن على فرنسا، مثلاً، ذهبت بطبيعة الحال في اتجاه معاكس تماماً للجماعية المتسلطة المطلقة التي كانت قائمة في فرنسا. فتولدت من رد الفعل هذا، أفكار الديمقراطية الفردية، أي جعل الفرد كائناً له قداسته في المجتمع، يجب ان يتمتع بحقوقه الشخصية وحرياته الكاملة. طبعاً، الثورة الفرنسية لم تستطع أن تحقق هذا المفهوم، لأنها تلهّت في مخاض الولادة العسيرة لهذه الأفكار، فما لبثت أن تنكرت لها في حروب داخلية ومحن حقيقية أدت إلى سقوط مئات الآلاف من البشر شهداء الصراع بين الجيرونديين والمونتينياريين Montagnards et Girondins، وسواهما من الفئات المتطاحنة على الحكم.

إلى ان جاء نابيلون وأنقذ فرنسا بعبقريته السابقة لتفكير عصره، وعاد إلى القديم ليقلد المثال اليوناني والروماني، فوضع دستوراً ينص على سلطة إدارية يتولاها القناصل ومجلس شيوخ على شاكلة مجالس الشيوخ الرومانية واليونانية، وأسس الأنظمة الحقوقية في فرنسا- فأروربا كلّها مدينة للأنظمة الحقوقية والجزائية التي وضعها نابليون- لصيانة حقوق الفرد؛ لأنه كان بالماضي شرعة الملك هي الحق “la loi est mon bon Plaisir- شرعة الدولة هي لذّتي الشخصية”، هكذا كان شعار الملكية المطلقة. فكان من الضروري أن توضع قوانين تحدد إلى أين يستطيع الإنسان أن يقوم بنشاطه دون أن يقع في خطأ يحاسب عليه من جانب مؤسسات الدولة. وأخذت الفكرة تنطلق منذ أيام نابليون، إلى أن ولدت الأنظمة الديمقراطية كما عرفناها في الجمهورية الثالثة والرابعة والخامسة في فرنسا.

ح- مفاهيم التيار الديمقراطي الفردي

وهذا التيار قام في الأساس على عدة مفاهيم:

أولاً: احترام حقوق وحريات الإنسان، وضمان احترام هذه الحقوق والحريات مراقبة هيئات ومجالس التمثيل، بواسطة المراقبة النيابية، وبواسطة القضاء.

ثانياً: تعاكس وتضاد السلطات في الدولة، وهو مبدأ جان جاك روسو الشهير، فإذا اجتمعت السلطات كلها في يد واحدة فلا بد من أن يبرز الطغيان. التمييز بين السلطة القضائية واستقلالها والسلطة التشريعية والإجرائية، وجعل المجلس النيابي ومجلس الشيوخ رقيباً على قضايا الحرية. فالمجالس النيابية وحرية التمثيل والترشيح لها تجعل لها هذه الهيمنة في المراقبة على التحقيق الفعلي لحريات وللحقوق الشخصية للإنسان.

والمصدر الرقابي الآخر الذي احدثته هو حرية الصحافة، ولو لم يكن هناك حرية صحافة لما كانت تثار هذه القضايا. وحرية الصحافة هي أيضاً ضمان لاستمرار حقوق وحريات الإنسان.

ثالثاً: والمبدأ الثالث الذي يقوم عليه النظام الديمقراطي الفردي، فيما عد استقلال السلطات وبخاصة القضاء، الانتخاب الحر للمجالس المحلية والنيابية، التي تجعل الإنسان متحرراً من سلطة الدولة والتي تمثل المجتمع. وبديهياً أن تتمثل هذه الحرية بحرية تشكيل الأحزاب والنقابات، بمبدأ يناقض تماماً مبدأ الحزب الواحد، سواء على الطريقة العربية أو الفاشستية، والنازية، أو الشيوعية.

رابعاً: والمبدأ الرابع الذي اتخذته هو ضمان الملكية للفرد، وذلك بعدم امكان نزع الملكية للإنسان إلا بسبب ومبرر قانوني، لأن ارتكاز الحرية لا بد أن يكون ارتكازاً اقتصادياً.

هذه بعض الأسس التي قامت على تأثيرها الثورة الفرنسية والأنظمة الديمقراطية في الغرب، فاعتبروا الملكية الفردية للإنسان، كحقوقه وحرياته، كأنها شيء مقدّس. وتطورت هذه النظرية إلى ضمان حق الإنسان في العمل، لكن هذا الضمان جرى بشكل آخر، بواسطة النقابات النامية التي منعت  الفصل الاعتباطي بسبب سياسي.

فلو كانت النقابات العمالية في لبنان نامية وقوية، لما كنا بحاجة إلى إقرار مشروع يمنع الصرف الكيفي من قبل الحكومة أو المجلس النيابي، لأن النقابات عندئذٍ هي التي تتحرك وتدافع عن العمال، وتجبر المعامل والمؤسسات على ارجاع العمال، فلا تعود هذه المعامل تتجرأ على فصل عامل بسبب سياسي أو عقائدي. ولا شكّ أن هذا الضمان شيء أساسي في ممارسة الديمقراطة.

ولهذا السبب نحن في الحزب التقدمي الإشتراكي طالبنا من وقت طويل بفكرة منع الفصل الكيفي، ونذهب بهذه الفكرة بعيداً إلى جعل مجالس حقيقية تأديبية في المعامل والمؤسسات التجارية الكبرى تتولى النظر بشكل قضائي، برئاسة قاضٍ، فيما إذا كان هذا العامل فصل كيفياً أو لمصلحة الخدمة.

وضمان حق الإنسان في العمل، وضمان ديمومة العمل شيء أساسي في ممارسة الديمقراطية؛ فلا توجد الديمقراطية في بلاد ليس فيها أحد أمين على لقمة خبز يأكلها في اليوم الثاني، أو على مسكن يسكنه، أو على أرض يركن إليها، أو على جنسية يتمتع بها.

ط- الأنظمة الكلية الجماعية

سوف ننتقل إلى الأنظمة الكلية الجماعية ونعاكسها في المفهوم السابق، لأنها ولدت وتركزت على فكرة الجماعة وهيمنتها على الإنسان، وجعل الإنسان منصهراً في الجماعة. وفي هذا المفهوم، الأنظمة كلها، سواء الفاشستية، أو النازية، أو الشيوعية، أو النقابية corporation، على طريقة سالازار واسبانيا (فرانكو)، لا يوجد عملياً وفعلياً أي تحقيق للحقوق والحريات الفردية الإنسانية.

حق المقاضاة أمام القانون بسبب قانوني مثلا، لم يكن موجوداً في البلاد الشيوعية قبل مجيء خورتشيف، فكان يجري القبض على الجماعات والأفراد بأمر إداري. وكذلك “تصريفهم” –أيام ستالين- بأمر إداري، وإذا جرت محاكمات كانت في معظم الأحيان صورية، لأن القضاء غير منفصل عن السلطة في هذه البلدان، فهو خاضع لما يسمونه السلطة الثورية، والحزب الثوري الحاكم. فهو يدخل كجزء من أجزاء الثورة لا ينفصل عنها. وكذلك حرية الإنسان بأن يتمتع بجنسيته ولا تُخلع عنه لأي سبب من الأسباب، فلا قانون لذلك ولا دستور، لأن الإنسان مالك لجنسيته كما هو مالك لهويته وشحصيته، فهو وقد ولد في هذه الجنسية، ففيها سيبقى، علماً أنه يمكن أن يغيرها أو يستبدلها وفق اختياره وإرادته. أمّا أن تحرمه الدولة من جنسيته فهذا لا يمكن أن يحصل، ولا يمكن لدولة ديمقراطية أن تجبر الإنسان على أن يتخلى عن جنسيته.

وكذلك حرية النشر وتأليف الأحزاب والنقابات والملكية كلها غير موجودة. فالحريات والحقوق الشخصية خاضعة في الأنظمة الجماعية إلى هيمنة وسيطرة الدولة، لسيطرة الحزب الحاكم، وفي النهاية، لسيطرة أفراد في الحزب الحاكم الذين يهيمنون على الحكم.

هذه الهيمنة الجماعية اتخذت صفة القومية العنصرية المتطرفة في النظام النازي الذي قام على أن ألمانيا هي الدولة المميزة على جميع الأمم على وجه الأرض، فتدعي بحقها في السيطرة على الآخرين، وان نستقطب الفرد إلى مصلحة القومية الجرمانية المميزة. فمن ضمن هذا المفهوم ألغيت جميع الحقوق والحريات. ونرى هذا متبعاً في الأنظمة الشيوعية والنقابية الكوربوراتية والفاشستية التي تجمع ما بين القومية والكوربوراتية.. وغيرها.

والميزة الثانية لهذه الأنظمة هي عدم الفصل بين السلطات، مفهوم الفصل ضربوا بعرض الحائط واعتبروا ان الثورة كل لا يتجزأ.

فكل السلطات خاضعة للسلطة الثورية، منها القضاء، ومنها السلطة التشريعية والتنفيذية، وهي مجموعة أعضاء في جسم واحد، فمبدأ تضاد السلطات لمنع طغيان غير موجود، ونجد مبدأ عدم فصل السلطات في النازية والفاشية، أما في الأنظمة الكوربوراتية فالسلطة القضائية متحررة نسبياً.

والمفهوم الثالث: لم تقر الأنظمة الكلية الجماعية حق المواطنين في تأليف الأحزاب ولا حقهم في الترشيح والاختيار الحرّ. فجاءت البرلمانات في هذه الدول غير مجدية في فرض الرقابة على الدولة وعلى الجماعات بالنسبة للحريات وللحقوق الفردية.

والتمييز الرابع: أنه لا يوجد ضمان للمرتكز الاقتصادي الذي يستند إليه الإنسان، أكان الملكية أم ضمان عمل. فلا يستطيع الإنسان ضمن هذه الأجواء أن يفتعل البطولات، بخاصة الإنسان العادي، فمن الصعب جداً بروز معارضة، لأن هناك شرطين أساسيين لكي تتم المعارضة، وهما: أن يكون الإنسان مؤمناً على ركيزته الإقتصادية، على عيشه، ألا ينزع منه قسراً بسبب أفكاره السياسية. وثانياً، تكون المعارضة مؤسسة على حرية الصحافة التي يلجأ إليها.

التمييز الخامس: ليس الفرد هو قطب المجتمع، بل الجماعة هي قطب وهدف المجتمع. وسواء عبرنا عن الجماعة باسم المتحد القومي أو المتحد الإجتماعي أو الطبقة، النتيجة هي ذاتها في الحقيقة.

التمييز السادس:  نظرية الحزب الواحد التي تمكن من ممارسة الطغيان السياسي؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يكون فاعلاً ورقيباً على فعله، هذا مستحيل! لأن من طبيعة الإنسان ألا يكون ازدواجياً، فإذا لم يكن هناك معارضة تظهر لي أخطائي، فإن نزعتي الطبيعية تجعلني استر أخطائي واتجاوزها ولا أحاسب نفسي عليها.

ي- لا بد من انتصار البشرية والحرية

هذه بعض الوجوه التي تجعل هناك نظامين منعاكسين ونظريتين، كل منهما تحاول أن تسيطر. ولكن الطبيعة البشرية، والتي نحن نؤمن بها، ل بد أن تنتصر في النهاية، ستجعل الحرية تسيطر.

ويمكن أن نخرج من هذا الصراع إلى نظام لا يكون النظام الديمقراطي الفردي القائم الذي له عيوبه العديدة، ولا النظام الشيوعي القائم الذي به أيضاً عيوبه، إلى نظام يجمع بين الحرية والنظام، بين القانون وهيمنة الأخلاق، بين الاستقطاب الجماعي الضروري لربط الإنسان ببيئته ومحيطه (بهدف في الحياة)، وبين احترام حقوقه وحرياته الشخصية الأساسية، بين التراث القديم والتراث الجديد الواسع، بين هذين التيارين الكبيرين اللذين كانا مجال صراع التاريخ.

ك- كل تضاد يبرز نظام تأليف

 أولاً: وباعتقادي الشخصي، أنه سوف لن تطول المدة لكي نرى شيئاً من هذا النوع يتحقق، لأن كل تضاد في النهاية لا بد من أن يبرز نظام تأليف، وأن يعبر من هذا التأليف إلى تضاد جديد في ما بعد.

ويقوي تفكيري في هذا الإتجاه أن هناك قواعد اقتصادية وفكرية تنمو في البلاد الشيوعية أكثر فأكثر، وبخاصة الأنتايجانسيا، نظراً لانتشار العلم وجعله في متناول فئات واسعة جداً، يمكن أوسع فئات تعلمت نسبياً على وجه التاريخ. فنرى ان هناك لوناً من التضامن الطبقي الجديد ينمو بين التكنوقراطيين والمثقفين والأدباء والمفكرين، وقد بدأ هذا التضامن يفعل في المجتمعات الشيوعية في اتجاه المزيد من الحريات.

فبعد أن كان الفن مقيداً في الاتحاد السوفياتي وبعضه ممنوعاً أصبحوا يسمحون بإقامة المعارض في ساحات موسكو الكبرى. لأن هذا التيار الثقافي في الواقع هو قاعدة للتغيير، فكما يفكر الإنسان كذلك يصبح، فالعلم هو الذي يكوّن اتجاهاتنا في الحياة إذا سيطر على أفكارنا، وهذا الذي يحصل أكثر فأكثر.

 ثانياً: ارتفاع مستوى الشعب الإقتصادي، خصوصاً أن القناعة قد دفنت في مجتمعاتنا منذ حوالي 200 سنة عندما بدأت الصناعة الحديثة، وقبلها كان شعور القناعة قائماً ومعمّماً على شعوب عديدة، على كل الشعوب تقريباً.

ثالثاً: الاختلاط عبر السواح ومؤتمرات العلماء، والتقارب الكوني الذي يحدث (الدخول والخروج من الدول الشيوعية وبالتالي تغير النظرة الشيوعية إلى العالم الرأسمالي، حيث كان الشيوعيون يرون فيه عالماً للفقر والبؤس، تماماً كما كان يُنظر إليهم أيام ستالين.) كل هذا يُشكّل شيئاً من المواصلات الفكرية.

فالكتب منتشرة في كل مكان تقريباً، فلا يمكن لأية مؤسسة في العالم أن تقرأ وتراقب ماذا يطبع لتوافق أو تمنع طبعه، لأنه في سنة واحدة يُكتب ويُنشر من كُتب بمقدار ما كتب منذ بداية الحضارة حتى اليوم على عدة مرّات، فلا يمكن عملياً المراقبة في هذا الحقل. وهناك مواصلات اخرى، وهي التلفزيون والراديو والأقمار الصناعية التي يتلقاها أي مواطن، لا يمكن منعها. وهناك مواصلات فكرية بين البشر تعمل على تغيير توجهات الناس.

رابعا: الأنظمة الشيوعية لم تجدد قيادتها الفكرية. لم يعد أحد بمستوى لينين أو أقل منه بدرجات، ولم يعد هناك تجديد في العقيدة نفسها، كما كان يطالب بذلك ماركس، بأن هذه العقيدة قابلة للتطوير والتغيير في أشياء كثيرة، لأنها إذا كانت علمية فهي تلتزم بالظواهر والواقع، وإذا أصبحت على طريقة العقيدة الدينية فتصبح شيئاً ثانياً وتُصبح ملتزمة بشيء مُعين وُضع، أو أًنزل من السماء؛ وفي العلم ليس هناك إنزال من السماء بالنسبة للعقائد الإجتماعية والسياسية.

فكل هذه العوامل وغيرها، كالوفاق الدولي القائم، وبروز القومية في المتحدات الاجتماعية، الشيوعية وغيرها، لأننا لا نزال نعيش في عصر القوميات، كل هذه العوامل تنبئ ان باب الحرية أضحى مفتوحاً، وفي اعتقادي لن يمضي أكثر من 15 سنة حتى تكون الحرية قد انتصرت في كل مكان، ولكن بلون جديد، لا باللون الليبرالي الفاسد الذي اعتدناه.

عقيدة الحزب التقدمي الإشتراكي، هي لون من محاولة التوفيق بين هذين التيارين الكبيرين اللذين استقطبا الجهد البشري عبر التاريخ بشكل لا يكون فيه تنكر للتيار الديمقراطي الغربي، لأنه لا أحد يقدر أن يتنكر للتراث، ولا للكسب التاريخي الهائل الذي حققته البشرية لأول مرّة، بشكل شبه دائم، من ضمان حريات وحقوق الإنسان. وكذلك عدم التنكر لما حققته الأنظمة الإشتراكية والشيوعية من ضمانات حقيقية لعيش الإنسان ولنشاطاته المادية المختلفة.

عصر التكور البشري الذي نعنيه يعني التلاقي على أساس الشعور أكثر فأكثر، لأن الأرض هي وطن الإنسان، كل إنسان، في ما يتجاوز جميع القوميات؛ فيفعل أيضاً في هذا الإتجاه المصيري الأخير.

من الممكن أننا نرى هذه الأنظمة لآخر مرّة في تاريخ البشرية، لأن هذا الحلم الكبير قد تحقق، وهو التوافق بين أفضل ما في الأنظمة، أفضل ما أبرزته، يعني الديمقراطية الاقتصادية في الأنظمة الإشتراكية، والديمقراطية السياسية في الأنظمة الغربية؛ حكماً بعد مدة من السنين وفق قاعدة التاريخ، الذي لا يرتضي فيه الإنسان شيئاً على حاله، ولا يركن إلى أي استقرار، بل يسعى إلى التبديل الدائم، نكون قد قربنا من نهاية الحضارة كما عرفناها، أو من نهاية الجنس البشري، لأنه بدون تحدّ دائب لا يمكن للإنسان أن يُكوّن شخصيته وشخصية المجتمع الذي ينتمي إليه، ويحدد مصيره واهدافه المعنوية في هذه الحياة، فالحياة قائمة دائماً على التحدي.

ل- بين الفرد والجماعة

هنا يطرح أحد الحاضرين سؤالاً بشأن علاقة الفرد بالجماعة، استناداً إلى آراء مختلفة للفلاسفة والتي تحدد هذه العلاقة وكيفية دخول الفرد في المجتمع إلى ان أبرز أخيراً المجتمع السياسي.

لم يدخل الفرد في المجتمع! بل هناك علاقة جدلية بين الفرد والمجتمع، لأن الإنسان دون أب وأم لا يمكن أن يكون موجوداً. لكن المجتمع تعقّد بمرور الزمن فاكتسب تراثاً؛ وهذا التراث هو الذي جعل المجتمع يتطور. إذاً في الحقيقة، الفرد لم يسبق المجتمع، كما أن المجتمع لم يسبق الفرد، تماماً كما في الحال بالنسبة إلى موضوع أسبقية البيضة والدجاجة. فمن الخطأ هنا أن يطرح بعض العلماء، أو الفلاسفة، هذا الموضوع على هذا النحو.

فالمجتمع قائم، سواء إذا كان هناك “كونتراتو” بين الناس أو لم يكن. فمجرد القبول بهذا المجتمع والقيام بنشاط داخله يشكل “كونتراتو” طبيعياً وعفوياً. نحن لم نجرِ أي اتفاق لكي نكون مواطنين لبنانيين نعيش في لبنان، مثلاً.

المجتمع قائم تماماً كالخلايا داخل الجسد؛ إذ ليس هناك من اتفاق سبق تكوين هذه الخلايا داخل الجسم. فالخلايا قائمة تقوم بنشاطاتها ومسؤولياتها، ولو لم تكن قائمة لما قام الجسم.

وهكذا هو المجتمع، مزيج من الخلايا والأعضاء. فللخلايا حريتها، لكنها في الوقت عينه ملتزمة بشرعة الجسد الكاملة؛ إذ أن قاعدة الكون تقوم على مبدأ: “التنوّع ضمن الوحدة” فلا يمكن أن يقوم اي شيء دون تنوّع ضمن الوحدة؛ وحدة الجسد: تنوّع الخلايا، وحدة نشاط الجسد: تنوّع نشاط الخلايا.

فالخلية هي تماماً كالكائن، هي إنسان صغير، تأكل وتشرب ولها ردود فعل دقيقة جداً؛ وتكوين الخلية ليس مسألة بدائية، بل هي، وفق الدراسات البيولوجية الحديثة، آلة مُعقّدة جدّاً في تركيبها.

من هنا، فإن ارتباط المجتمع هو ارتباط معنوي لا ارتباط عضوي، بالمعنى الفيزيولوجي، بين الفرد والجماعة. يمكن للإنسان أن يعيش وحيداً وأن يتنسّك بعيداً عن الجماعة، لكن الخلية لا يمكنها ترك الجسم… عندها تموت.

وبشأن هيمنة الفرد على الجماعة أو العكس، فليس هناك من قداسة أخيرة للأشياء لكن نزعة الإنسان تقوم على فرض نوعٍ من القدسية على ما يحترمه في الحياة وهذه نزعة خاطئة، لأن لا شيء إلا وهو نسبي في النهاية. حتى حق الملكية هو حق نسبي.

  • المصدر: كمال جنبلاط، “فلسفة العقل المتخطي، فلسفة التغيير: الجدليات”، الدار التقدمية، الطبعة الأولى 2003، ص428-443. النص هو تفريغ مدقق لتسجيل صوتي للمعلم في إحدى ندواته غير المكتوبة بتاريخ 2 شباط 1975.

(الأنباء)