في “الأنباء”: أي منعطفات ستسلكها القضية الكردية في الأيام المقبلة؟

تدخل القضية الكردية مفصلاً حاسماً خلال الأيام القادمة، حيث أعلى رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني أن “لا رجعة” عن قرار الاستفتاء حول الانفصال عن العراق، المقرر إجراءه الاثنين في 25 من أيلول الجاري، وقال أمام عشرات آلاف من الأشخاص الذين احتشدوا في ملعب فرنسو حريري في أربيل عاصمة الإقليم، أن القرار بشان استفتاء الاستقلال بات “في يد الشعب”.

أضاف البرزاني: “تجمعنا هنا لنقول بصوت واحد نعم للاستفتاء بعد أن وصلنا لقناعة منذ سنوات بعدم إمكانية الاستمرار مع بغداد”، وأوضح أن وقت “المطالبة بتأجيل الاستفتاء قد نفد، وبعده سيتم التفاوض مع بغداد وغيرها على كل شيء، وأنا لست ذلك الشخص الذي يخذل شعبه، مشيراً إلى أن سبب عدم التأجيل يعود لعدم تلقي بديل يحل محله”.

وقبل إطلالة البرزاني، كان عشرات آلاف الأشخاص توافدوا إلى موقع المهرجان وبدأوا بالاحتفالات تعبيراً عن دعمهم لاستقلال إقليم كردستان، رافعين شعارات تؤكد رغبتهم في الانفصال عن العراق.

البرزاني، الذي انتخب عام 2005 رئيساً لإقليم كردستان العراق، رفض جهود الأمم المتحدة ونصائح الولايات المتحدة وبريطانيا لتأجيل الاستفتاء، يواجه ضغوطاً عراقية وإيرانية وتركية التي تجري مناورات عسكرية على الحدود مع بلاده للتأكيد على مخاوفها من أن انفصال أكراد العراق قد يغذي التمرد على أراضيها، حيث يتوزع أكثر من 30 مليون كردي بين إيران وتركيا وسوريا والعراق، كانت اتفاقية سايكس – بيكو قبل مئة عام قد فرقت شملهم بين تلك الدول مانعة قيام دولة كردية مركزية، ثم عانوا الكثير بسبب سياسات عنصرية واستئثاريه؛ إرهابية وبوليسية، مورست ضدهم.

وطنية-سايكس-بيكو

لقد برزت القضية الكردية في المنطقة منذ مطلع العشرينيات من القرن الماضي، فبعد أن جرى التغاضي عن معاهدة سيفر 1920، وانحياز القوى الكبرى إلى جانب تركيا الكمالية، حيث جرى إبرام معاهدة لوزان عام 1923 التي تناست قضية الكرد وحقوقهم، ما شكل بداية تبلور تلك القضية التي أصبحت مصدر قلقٍ وتوتر للعديد من دول المنطقة وازدادت تعقيداً مع مرور الأيام تاركة آثارا سياسية وإنسانية كبيرة وخطيرة. وكان الأكراد في تعبيراتهم السياسية هدفاً لحروب امتدت على مستوى أغلب دول الإقليم على مدار عقود متتالية، حيث منعوا من بلورة كيان كردي كعنوي، ومنعوا من الحفاظ على الشخصية الكردية الثقافية والاجتماعية من الحضور في تلك الدول وهذا كله، كان محرضاً لسعي الأكراد نحو كيان مستقل، وهو حق لا نزاع فيه.

لقد حظيت القضية الكردية باهتمام كبير لتوزعها على أربع دول أساسية في المنطقة وذات أهمية جيو- سياسية واستراتيجية واقتصادية، من خلال وجود النفط من جهة، وتقاطعها مع مكونات قومية ودينية واثنية وعرقية غير قليلة تؤثر على استقرار دول المنطقة وعلى المصالح المتداخلة فيها.

منذ فشل الانتفاضة الكردية في العراق إبان الحرب العالمية الثانية وانتقال بعض الكرد العراقيين للقتال إلى جانب الكرد الإيرانيين إثر قيام جمهورية “مهاباد” عام 1946 أخذت القضية الكردية منحا إقليميا استفادت من تناقضات الصراعات الدولية وانقسامات الأحزاب الباردة، كما كانت ضحية هذه التناقضات أيضاَ، حيث عاش الكرد تحديات صعبة وسط غياب ابسط الحقوق المشروعة لهم كمواطنين في دولهم، ما أدى الى استنهاض الشعور القومي الكردي في كل من إيران وتركيا والعراق وسوريا.

لقد خرجت القضية الكردية في العراق والمنطقة من الدائرة المحلية إلى الدائرة الدولية لتصبح من القضايا المعقدة التي تتطلب حلولا عاجلة وسريعة، مع ارتباطها بحرب الخليج الثانية ومشاهد الهجرة الجماعية المرعبة بعد قمع “انتفاضة الحلبجة والأنفال”، كما بعد ظهور داعش وسيطرتها على أجزاء كبيرة من العراق.

مما لا شك فيه أن استغلال الدول الكبرى لا سيما الولايات المتحدة الأميركية للقضية الكردية، منذ حرب الخليج الأولى، وضع الأكراد في مواجهة مع دول الجوار، ومع النسيج الاجتماعي العربي والتركماني، وهذا ما يثير القلق من الاستفتاء والذي قد يشكل نقطة تحول في سياق تفتيت دول المنطقة، سيما وأن الدول الداعمة اليوم لاستفتاء الانفصال، تتقاطع مصالحها وعلاقاتها مع الدول التي تعارض الاستفتاء.

كما أن تزامن “استفتاء الانفصال” في العراق الذي تعارضه واشنطن، مع “الانتخابات الفيدرالية” في شمال سوريا برقابة أميركية ـ روسية، والتي ستؤدي الى تأسيس برلمان “حكومة فيدرالية” بداية العام المقبل لإدارة ثلاثة أقاليم وست مقاطعات ثير الريبة والقلق على مستقبل واستقرار دول المنطقة خاصة تلك المعنية بالقضية الكردية. حيث أن الانتخابات الفيدرالية في شمال سوريا اليوم والتي تؤسس وفق خبراء دوليين لسوريا الجديدة الفيدرالية، تذكر، بالانتخابات الفيدرالية في العراق التي أدت الى إنشاء إقليم كردستان الذي يطالب بالانفصال عن العراق.

Nic274535

إن المشكلة لا تكمن في حق الأكراد في الاستفتاء أو الانتخاب أو إقامة كيان كردي هنا أو هناك، إنما تكمن في البيئة العامة التي يجري فيها الاستفتاء، والتي تخلق مزيداً من المخاوف عليه ومنه وضده، ما يعزز نزعة معارضته من جانب شعوب المنطقة وجماعاتها السياسية ودولها لاعتبارات راهنة وأخرى مستقبلية، فالواقع الحالي يؤشر لولادة كيان لا يتوافق مع مصلحة دول وشعوب المنطقة بما فيه مصلحة الأكراد أنفسهم.

والأخطر ما في الاستفتاء، أنه سيتم في وقت تتعرض فيه المنطقة ودولها لحروب مصيرية، تعصف بكياناتها وبشعوبها وتفتتها على أسس عرقية واثنية ومذهبية، وتضع الكيانات بمواجهة بعضها البعض وتدفعها الى التفتيت، كما تضع الشعوب بمواجهة القتل والتهجير وتدمير قدراتها، وتدفعها إلى مستقبل غامض، مما يرفع وتيرة التوجس والخوف من أي مشروع، خصوصاً إذا كان مشروع ولادة كيان جديد.

كما يأتي الاستفتاء في ظل موجة غير مسبوقة من التطرف والإرهاب التي يتشارك فيها تطرف وإرهاب الجماعات المسلحة مع إرهاب الدولة على نحو ما يظهر في سياسات وممارسات نظام الأسد في سوريا ومنظومة الدول الداعمة له، تحت شعار محاربة الإرهاب، وبين الملامح الأساسية للبيئة العامة المحيطة بالاستفتاء، تصاعد موجة التعصب والعنصرية، في دول المنطقة، ونشر العداء المتبادل بسبب ومن دون سبب، خصوصاً لدى بعض الأكراد ممن يعتقدون أن مشروع إقامة كيان كردي، يمر من بوابة العداء لمحيطهم، وثمة ملمح آخر في البيئة المحيطة بالاستفتاء، تتصل بنشاطات حزب العمال الكردستاني (PKK) وتنظيماته التابعة له، لا سيما في سوريا؛ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي يعكس سياسة متطرفة (بما فيها معارضة الاستفتاء والاعتداء على مؤيديه)، تجري متابعتها بالقوة من خلال علاقاته بالنظامين السوري والإيراني، والدعم المباشر من الولايات المتحدة والتأييد الروسي لتلك السياسة.

syria-army

كل ذلك يزد من مخاوف شعوب المنطقة وجماعاتها السياسية ودولها، بل يزيد المخاوف على الاستفتاء ونتيجته المرتقبة في تأييد إقامة الكيان الكردي الذي يطمح له الأكراد والذي قد يمتد الى دول المنطقة، إذا ما نجحت أيضا تجربة الفيدرالية في شمال سوريا التي تجري فيها الانتخابات على ثلاث مراحل تنتهي مطلع العام المقبل، في مناطق انتشرت فيها قواعد عسكرية أميركية شرق نهر الفرات لدعم “قوات سوريا الديمقراطية” في قتال “داعش” من جهة، ومركز عسكري روسي غرب النهر لدعم “وحدات حماية الشعب” الكردية وفصلها عن فصائل سوريا التي يدعمها الجيش التركي شمال مدينة حلب.

وكان قد عقد قبل شهرين في الرميلان شرق سوريا مؤتمر أقر “القانون الانتخابي للفيدرالية الديمقراطية لشمال سوريا” و”قانون التقسيمات الإدارية” لتوسيع الإدارات الذاتية، لتصبح ثلاثة هي: إقليم الجزيرة وإقليم الفرات وإقليم عفرين، يضم إقليم الجزيرة مقاطعتي القامشلي والحسكة، فيما تقع كوباني وتل أبيض ضمن إقليم الفرات. ويضم إقليم عفرين مدينة عفرين ومنطقة الشهباء أما مدينة الرقة، التي حررت “قوات سوريا الديمقراطية” 90 في المائة منها، سيقرر بعد السيطرة الكاملة عليها ما إذا ستنضم إلى الفيدرالية الشمالية أم لا.

وبحسب تقديرات الهيئة التنفيذية لفيدرالية شمال سوريا، يعيش في الأقاليم الثلاثة نحو ثلاثة ملايين سوري يشكل الأكراد 50 في المائة منهم. ويشكل العرب 45 في المائة، مقابل 5 في المائة من باقي المكونات، وهذه الانتخابات ستجري في مناطق خاضعة لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” التي تشكل “وحدات حماية الشعب” المكون الرئيسي لها.

مما لا شك فيه أن الاستفتاء العراقي والانتخابات الفيدرالية في شمال سوريا، لا يضعان القضية الكردية أمام تحديات جديدة بل يضعان المنطقة أمام أزمة صراعات عنفيه مفتوحة، حيث تواكب هذه الخطوة حشود تركية على الحدود الجنوبية السورية تلوح باستخدام القوة لمنع قيام إقليم كردي، وحشود أخرى مقابل حدود العراق للضغط على إقليم كردستان لتأجيل الاستفتاء على الاستقلال. وكانت تركيا وإيران والعراق، دعت السلطات في كردستان العراق، إلى إلغاء الاستفتاء، محذرة من أنها ستتخذ إجراءات حاسمة ومشتركة للرد عليه.

  • فوزي ابو ذياب – “الأنباء”