تشارلوتسفيل وبوسطن الكراهية واللون

د. قصي الحسين

كانت قد فتحت معركة الرئاسة الأميركية الأخيرة بين المرشحين دونالد ترامب وهيلاري كلينتون، ثغرة قوية في جدار الانتخابات الأميركية، حين فاز رجل الأعمال ترامب (الشعبوي)، كما تداولت وسمه معظم وسائل الإعلام في العالم، على وزيرة الخارجية الأميركية وزوجة الرئيس السابق بيل كلينتون. وكان لهذه الثغرة آثارها وتردداتها في الأوساط السياسية داخل أميركا وخارجها، سبح في موجها العالي والعاتي: المادح والقادح، في أسوأ برهة تاريخية عرفها البيت الأبيض منذ تأسيس دولة الولايات المتحدة الأميركية. غير أن الجميع خلصوا: إنها لهزة قوية زلزلت الثوابت والأسس والدعائم والقناعات والحسابات والتحالفات والمواجهات والثقافات والسياسات. ثم سلموا بقول منافس الرئيس أبو حسين أوباما، حين خسر أمامه معركة الرئاسة: “وإنها لأميركا يا عزيزي”.

وبعد حكم المئة يوم، وفي ظل انشغال الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مواجهات في الخارج مع كوريا الشمالية وفنـزويلا وإيران وروسيا (التقليص المتبادل في عدد الممثلين في سفارتيهما)، نراه يواجه ثغرة مقلقة له، في جدار غرفة نومه في البيت الأبيض، حين وقعت أعمال العنف التي اجتاحت ليل السبت والأحد (12 و13 آب / أغسطس) مدينة تشارلوتسفيل في ولاية فرجينيا، قام بها العنصريون البيض الذين ينادون بتفوق العرق الأبيض وجماعة كوكلوكس كلان والنازيين الجدد وجميع المجموعات المتطرفة والتي تدور بفلكهم، وذلك حين تباطأ الرئيس وتردد بتوجيه إدانة صريحة لهم وأحجم عن شجب المواقف العنصرية للعرق الأبيض من الأميركيين الأفارقة والملونين عموماً. إذ اكتفى، وهو في نادي الغولف حيث كان يمضي إجازته يوم السبت، بتحميل الطرفين المتواجهين المسؤولية ذاتها.

امريكا

وإذ عاشت الولايات المتحدة ساعات متشنجة فجر السبت، الأحد، على وقع أحداث تشارلوتسفيل، والتي أيقظت شبح العنصرية والتمييز العرقي في البلاد، نرى مدينة بوسطن لا تتأخر كثيراً في الرد عليها، حين نزلت يومي السبت والأحد (19 و20 آب/ أغسطس) حين نزل آلاف المناهضين للعنصرية في شوارعها، في أعظم مظاهرة شهدتها المدينة، ألقت بظلالها على تجمع للمتطرفين البيض في المدينة، تخللتها مناوشات مع الشرطة ولو دون وقوع ضحايا.

وفيما بدأ المتظاهرون يغادرون وسط بوسطن من دون تسجيل أحداث تذكر، أعقب ترامب تغريدته بأخرى أكثر إيجابية من المرة السابقة فكتب: “أود أن أثني على المتظاهرين الكثر الذين رفضوا التحريض والكراهية”، وأضاف: ” بلادنا ستتحد قريباً” أمّا رئيس بلدية بوسطن فكتب: “أريد أن اشكر جميع الذين شاركوا اليوم”، وأضاف: أشكر جميع الذين جاؤوا لمشاركة رسالة الحب وليس رسالة الكراهية لمواجهة العنصرية. مواجهة معاداة السامية، مواجهة دعاة تفوق البيض الذين كانوا قادمين إلى مدينتنا”.

شكلت أحداث تشارلوتسفيل صدمة عظيمة للأفارقة الأميركيين وأبناء الأقليات جميعاً، بعدما رفع دعاة تفوق العرق الأبيض أعلاماً نازية وأخرى كونفدرالية، وصاحوا بشعارات معادية لليهود والمسلمين.

ودهس أحد عناصر “كوكلوكس كلان” إحدى الفتيات المتظاهرات ضد العنصرية بسيارته، وهو جايمس اليكس فيلدس (20 سنة) من المعجبين بالزعيم النازي أدولف هتلر والرئيس ترامب. أمّا ابنة الرئيس الأميركي “ايفانكا ترامب” وهي يهودية، فقد دانت العنصرية والاعتقاد بتفوق العرق الأبيض والنازيين الجدد وكتبت في تغريدة: “لا مكان في المجتمع للعنصرية والاعتقاد بتفوق البيض والنازيين الجدد. علينا أن نتحد كأميركيين”.

وكانت احتجاجات العنصريين قد بدأت يوم الجمعة 11/8/2017 لاعتراضهم على خطط لإزاحة تمثال لكولونيل في الجيش الأميركي يعود لفترة الحرب الأهلية يجسد العنصرية. وجاء الكثير منهم من خارج ولاية فيرجينيا للمشاركة. فناشدهم حاكم فيرجينيا بالعودة من حيث أتوا وقال في وجههم: “لا مكان لعنصريتهم في الولاية أو في أي مكان آخر في أميركا”. أمّا وزير العدل الأميركي جيف سيتنز، فوصف أحداث فيرجينيا بـ”إرهاب داخلي”.

وسعى البيت الأبيض إلى استدراك الأمر، مشدداً على أن الرئيس أعلن إدانته، كل أشكال العنف والتعصب والكراهية، وذلك يشمل المتشددين البيض وكوكلوكس كلان والنازيين الجدد وكل الجماعات المتطرفة.

كان موقف السلطة من حرب “الكراهية واللون”، في تشارلوتسفيل وبوسطن، حرجاً للغاية. فأمرت السلطات في بوسطن بحظر حمل السلاح في منطقة التظاهرة المناهضة للعنصرية. ومنعت الشرطة المجهزة بمعدات مكافحة الشغب، المشاركين في التظاهرة من الوصول إلى الموقع الذي تجمع فيه “القوميون البيض”. فاتهموا بالدفاع عن “النازية الصاعدة” في عهد الرئيس ترامب. وردد القوميون البيض شعار “حرية التعبير”، بينما كان حوالي 2500 شخصاً يسيرون في تظاهرة في دالاس بولاية تكساس، وينددون فيها بالعنصرية والجمهورية الانفصالية التي كانت تؤيد البقاء على العبودية. أمّا في أتلانتا (جورجيا) فسار حوالي ألفي شخص من وسط المدينة إلى ضريح مارتن لوثر كينغ جونيور المدافع عن حقوق الإنسان.

ووجدها “لافروف” وزير خارجية روسيا، فرصة، فسخر من “منطق منظمي ثورات ملونة”، وهو ينظر في تقليص سفارة أميركا منح الروس تأشيرات دخول إليها. أمّا ترامب فتخلى عن تعصبه وأخذ يحض الأميركيين على “فتح قلوبهم”، حتّى ولو خسر البيض امتيازاتهم.

فهل نرى في أحداث تشارلوتسفيل والرد عليها في بوسطن وغيرها من المدن الأميركية التي أشعلت صراع اللّون، وأججت عنف الكراهية واللّون ضد اللّون، ما يشي بتصدع الليبرالية الأميركية، بالانغلاق على الداخل والانقطاع عن العالم. والسؤال: لماذا يلفظ معظم الأميركيين، شباباً وشابات ومثقفين وثوريين، صفة الليبرالي، ويعودون إلى الفردانية والعرقية وصراع اللّون؟!

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث