فوضى ونظام في عالم متغيّـر

هنري كيسنجر (الحياة)

النظام العالمي الذي أرساه الغرب في 1648 استند إلى مبدأ سيادة الدول. والسيادة هذه يضمنها توازن قوى بين عدد من الكيانات. واليوم، يجبه النظام العالمي مفاهيم مستقاة من تجارب تاريخية وثقافية مختلفة لها رؤى قارية أو دينية عالمية. ومسائل دار كلام مارغريت ثاتشر عليها قبل عقدين مثل، التساؤل عن سبل التعامل مع روسيا معاملة الشريك أم التهديد المحتمل؛ ودور الناتو في نزاعات «خارج منطقته»؛ واستقبال ديموقراطيات جديدة في وسط أوروبا؛ وصوغ أوروبا «هوية دفاعية» في نطاق الناتو. هذه المسائل هي موضع تساؤل اليوم. فهل تذلل وتحل استناداً إلى مبادئ الدولة– الامة أم إلى مفاهيم جديدة وأكثر عولمة تخلف أثرها في نظام العالم المقبل.

الشرق الأوسط

النظام العالمي مهدد بانفراط عقده والانحلال على أطراف الشرق الأوسط. فالنظام الفيستفالي الذي برز في هذه المنطقة عند نهاية الحرب العالمية الأولى، يترنح، وتنهشه الفوضى. ولم تعد أربع دول شرق أوسطية سيدة. وصارت سورية والعراق وليبيا واليمن ميادين معارك فصائل تسعى إلى الغلبة والحكم. وفي مناطق شاسعة في العراق وسورية، أعلن داعش، وهو جيش ديني متطرف عقائدياً، معاداة الحضارة المعاصرة الحديثة، وهو يسعى من طريق العنف إلى التربع محل النظام الدولي وتعدد دوله، وإحلال محله إمبراطورية إسلامية واحدة تحتكم إلى الشريعة. ولا أعداء وأصدقاء في الشرق الأوسط اليوم، فخصم العدو ليس صديقاً بل هو عدو. ويخلف تقلب أحوال الشرق الأوسط وتذبذب أيديولوجياته أثراً في العالم. وحرب العالم الخارجي على داعش هي مثال على ذلك. وشطر راجح من القوى غير الداعشية- بما فيها شيعة إيران والدول السنّية البارزة- يجمع على الحاجة إلى تدمير داعش. ولكن أي كيان سيرث إقليم التنظيم هذا؟ أهو تحالف سنّة؟ أم دائرة نفوذ تهيمن عليها إيران؟ وجواب السؤال هذا عسير. فروسيا ودول الناتو يؤيدون فصائل متباينة. وإذا احتل الحرس الثوري الإيراني إقليم داعش أو قوى شيعية يدربها ويديرها، برز حزام بري من طهران إلى بيروت، قد يؤذن بإمبراطورية إيرانية متطرفة.

وفاقم تغير تركيا، وهي كانت قوة اعتدال وتأثير بارزة، وتحولها من دولة علمانية إلى صيغة أيديولوجية إسلامية، تعقيد الحسابات الغربية. وهي تؤثر في أوروبا من طريق ضبط سيل المهاجرين في الشرق الأوسط، وتحبط واشنطن حركة النفط وغيره من السلع عبر حدود تركيا الجنوبية. ويتزامن دعم تركيا القضية السنية، مع سعيها إلى تقويض استقلال الأكراد، وفصائل هؤلاء يدعمها الغرب. ودور روسيا الجديد يساهم في ارتسام وجه النظام المقبل. ولكن هل ترمي موسكو إلى هزيمة داعش والحؤول دون مثل هذه الكيانات؟ أم أنها تنساق وراء الحنين إلى طلبها التاريخي الهيمنة الاستراتيجية؟ ويشرع الاحتمال الأول (السعي إلى هزيمة داعش) الأبواب أمام تعاون بناء بين الغرب وروسيا. ولكن إذا كانت تسعى إلى الهيمنة تعذر مثل هذا التعاون، ورجحت كفة العودة إلى أنماط الحرب الباردة. وموقف روسيا من السيطرة على أراضي داعش، هو امتحان بارز. والغرب أمام الخيار نفسه. وعليه، حسم قراره والبت في أي نتيجة تتماشى مع نظام عالمي «يبزغ» (أو يبرز أو ينمو)، وعلى أي نحو تؤثر فيه وتحدده. ولا يسع الغرب التزام خيار يستند إلى تجمعات دينية نظرية، في وقت هذه التجمعات يشوبها الانقسام. ودعمه يفترض أن يرمي إلى الاستقرار وإلى جبه التجمعات التي تهدد أكثر من غيرها الاستقرار المرجو. وحري بالحسابات الغربية أن تحتسب (أهدافاً) طويلة الأمد، وألا تنجرف وراء تكتيكات اللحظة الآنية. وإذا أراد الغرب مواصلة التدخل من دون الاستناد إلى خطة جغرافية– سياسية، تعاظمت الفوضى. وإذا انسحب، نظرياً أم عملياً (في الواقع)- على نحو ما كان يرغب في العقد الأخير- لا تقوى قوى عظمى مثل الصين والهند، على تحمل الفوضى على حدودها أو الاضطراب في الداخل، وستتدخل تدريجاً إلى جانب روسيا وتحل محل الغرب. وهذا يطيح أنماط السياسة العالمية التي أرسيت في القرون الأخيرة.

 

* وزير خارجية أميركا ومستشار الأمن القومي في عهد ريتشارد نيكسون، عن «كاب أكس.كو» البريطاني.