تركيا تخسر أبرز مشجعيها: الجيش الأميركي

خضعت علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي ومكانتها داخل حلف شمال الأطلسي لتدقيق متزايد خلال العام الماضي، وخاصة أثناء حملة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للفوز باستفتاء دستوري في نيسان/أبريل، والذي اعتبره الكثيرون استيلاء على السلطة. وحالياً، أدى الخلاف حول زيارة البرلمانيين الألمان إلى قاعدة أنجرليك الجوية المهمة في تركيا إلى دفع ألمانيا لإرسال معظم قواتها التي تقاتل تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا إلى الأردن. وفي الوقت الذي يعمل فيه الأمين العام لحلف “الناتو” جينز ستولتنبرغ على التوصل إلى حل وسط بين البلدين، تحدث فريتز لودج من “سايفر بريف” مع مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، سونر چاغاپتاي، حول تأثير ذلك على مستقبل العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي ومكانة البلاد داخل حلف “الناتو”، وكيف سيؤثر ذلك على السياسة الأمريكية في المنطقة”.
“ذي سايفر بريف”: ما هو الوضع الحالي للعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، ولا سيما علاقات تركيا بألمانيا، في ظل استمرار الأزمة بشأن النفاذ السياسي الألماني إلى “قاعدة إنجرليك الجوية” التركية؟
سونر چاغاپتاي: كما هي الحال مع أي مسألة أخرى تقريبًا، ينطوي فهم العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي على فهم الديناميكيات السياسية الداخلية الحالية في تركيا. فالبلاد منقسمة إلى نصفين: النصف الأول موالٍ للرئيس التركي رجب طيب أردوغان والنصف الآخر يرفض حكمه تمامًا. وبالنسبة إلى النصف الموالي لأردوغان، ما نراه في هذه الأزمة القائمة بين تركيا والاتحاد الأوروبي والدول الغربية الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة، هو تغير زلزالي. فمنذ الانقلاب الفاشل ضد أردوغان في العام الفائت، برزت نظرية جديدة بين مؤيديه أطلقوا عليها اسم “الأردوغانية”.
وتعتبر هذه النظرية أن أردوغان شخصية تاريخية ستجعل الأتراك عظماء وتعيد الفخر إلى المسلمين وأنه لا بدّ من تأييده ودعمه، ليس لأن أردوغان بحاجة إلى تأييد شخصي، بل لأن هذه هي الطريقة التي تدعم مثل هذا المشروع التاريخي العظيم.
من جهة أخرى، تشير هذه النظرية أيضًا إلى أنه إذا لم تدعم أردوغان، فأنت بالتالي لست تركيًا جيدًا أو مسلمًا جيدًا، ولا بدّ التالي من محاكمتك. وأود أن أضيف أيضًا أنه إذا كنت تعارض أردوغان، فأنت في أغلب الظن وكيلًا للأجانب.
وهنا تتجلى الأردوغانية بامتياز: مزج الإسلام السياسي والقومية التركية تحت شخص أردوغان الذي تتمثل فكرته الإجمالية في أن أردوغان يحمي تركيا والعالم الإسلامي من الهجمات الأجنبية. وهؤلاء الأجانب هم عادةً الغربيون، وهو ما يعني غالبًا في السياق التركي الأوروبيين. فإن عداءً متأصلًا ضد الأوروبيين والغرب يوجّه تفكير الكتلة الموالية لأردوغان.
وبالتالي، أعتقد أن ما رأيناه قبل الاستفتاء التركي على الدستور في نيسان/أبريل يشير إلى أن الأزمات مع الهولنديين والألمان لم تكن مشاكل عرضية، بل مثّلت فعليًا ذروة هذا التفكير الجديد في تركيا حيث يبدو أن الإيديولوجيا السياسية الحاكمة في البلاد تستند إلى حس من العدائية تجاه أوروبا والغرب. وحتى في حال توصّلت ألمانيا وتركيا إلى تفاهم هذه المرة، ستبرز أزمات أخرى مع قوى أوروبية أخرى في المستقبل.
ولا يتعلق الأمر بسياسة أردوغان الانتخابية، كما ألمح البعض خلال الاستفتاء الذي أجري في نيسان/أبريل، بل هو أعمق من ذلك بكثير. فبالنسبة إلى داعمي الأردوغانية، لا يتعلق الأمر بحدث واحد فحسب، بل بسيرة تاريخية لمجموعة من الأحداث شهدت على مهاجمة الغرب لتركيا والعالم الإسلامي عبر التاريخ. أولًا في الحروب الصليبية ثم في الحرب العالمية الأولى وأخيرًا في محاولة الانقلاب على أردوغان التي يعتقدون أنها مدعومة من الأجانب (أوروبيين وأمريكيين). وتهيمن هذه السيرة بالكامل على عقول نصف الشعب التركي.
“ذي سايفر بريف”: هل من مبرر سياسي منطقي خلف خطوات أردوغان وحكومته إزاء الاتحاد الأوروبي وألمانيا وهولندا وغيرها؟
سونر چاغاپتاي: من الواضح أن الأردوغانية هو نوع من التسونامي السياسي لنصف تركيا التي تدعم الرئيس. وهو تسونامي يُغرق في الوقت نفسه النصف الآخر الذي لا يدعمه.
إلا أنني أوافق أيضًا على وجود انعطافة براغماتية لهذه المسألة. فعلى الرغم من تصوير الأردوغانية لأوروبا على أنها العدو – العدو الخارجي الذي يستخدم وكلاءه في تركيا لإلحاق الضرر بالرئيس – يدرك أردوغان في الوقت نفسه أن فوزه في الانتخابات منذ عام 2002 اعتمد إلى حدّ كبير على الحجم القياسي من الاستثمارات الأجنبية المباشرة (الأوروبية في الغالب) التي استقطبتها بلاده.
ويرتبط سبب استثمار الشركات الدولية في الشركات الناشئة أو الاستثمارات الجديدة في تركيا إلى حدّ كبير بوصف البلاد على أنها في مرحلة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ما ساعد على استقطاب هذه الأحجام القياسية من الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال العقد الماضي من الزمن. فقد قادت هذه الاستثمارات الأجنبية دفة النمو بشكل رئيسي، وأدّى هذا النمو بدوره إلى توسيع قاعدة ناخبيه الذين جذبهم إليه عمومًا الازدهار الاقتصادي الذي حقّقه وانتشاله لعددٍ كبير منهم من الفقر.
إن أردوغان على يقين تام بكل هذا، لذا لا يمكنه فعليًا تحمّل تكلفة كسر الأسس الاقتصادية للعلاقة مع أوروبا. وعليه، سيحاول الاستفادة من روابط تركيا والاتحاد الأوروبي لإبرام صفقات، رغم وجود عدائية الأردوغانية للأوروبيين في الخلفية.
وسيحاول المحافظة على روابط تركيا الاقتصادية بأوروبا. ومن المفارقة أنه لهذا السبب في وقت تهاجم فيه إدارة أردوغان الأوروبيين على نحو يومي، تحاول أنقرة في الوقت نفسه توطيد الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي، ما يسمح بتبادل كافة أنواع السلع الصناعية بحرية عبر الحدود من دون دفع أي رسوم.
وسيقوم بذلك من خلال تقديم التعاون في مسألة اللاجئين. فمن الجانب الأوروبي، يخشى قادة دول الاتحاد الأوروبي إلى حدّ كبير انزلاق تركيا نحو الدكتاتورية. لكن رغم هذا التصوّر، تواجه أوروبا مشكلة على المدى القصير تتمثل بعدد اللاجئين الذي يناهز الثلاثة ملايين الذين تستقبلهم تركيا و”تبقيهم لديها”. فبشكلٍ رئيسي، إن أراد أردوغان ذلك، يمكن أن يصبحوا جميعًا في ألمانيا غدًا، وباقي الدول الأوروبية أيضًا، ما سيتسبب بمشاكل داخلية خطيرة بين الدول الأوروبية بشأن عبء اللاجئين، ويقوّض بالتالي وحدة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
“ذي سايفر بريف”: بالحديث عن حلف الناتو، نلاحظ أن أمينه العام ينس ستولتنبرغ عرض التوسط للتوصل إلى تسوية بين تركيا وألمانيا حول قضية قاعدة “إنجرليك” – لكن كل ذلك يتلو اتفاقًا أوليًا بقيمة 2 مليار دولار أبرمته تركيا لشراء صواريخ أرض-جو من طراز أس-400 من روسيا الشهر الفائت. فما هي برأيك الدلالة التي يحملها كل هذا حول مكانة تركيا في الناتو؟
سونر چاغاپتاي: في ما يخص اتفاق صواريخ أس-400، لا أعتقد أنه نهائي إلى أن يُنجز فعليًا. فقد أبرمت تركيا اتفاقات مماثلة لشراء أنظمة دفاع جوي من الصين، وبدت الصفقة فعلية ورسمية، لكن في نهاية المطاف قطعت تركيا جسور التواصل بعد ردود الفعل الساخطة من الناتو والولايات المتحدة في عامي 2010 و2011.
لكن هذا يشير إلى أنه، في وقت لا يريد فيه أردوغان أن تنهي بلاده عضويتها في حلف الناتو، يتعامل مع الحلف وكأنه نادٍ انتقائي حيث يختار اعتماد ما يحلو له من برامج الحلف ومبادراته وليس جميعها، لأنه بخلاف ما كانت عليه تركيا في السنوات السابقة حين اعتقد قادتها أن بلادهم توفر مصلحة مشتركة ضمن الحلف – وتتشارك معه القيم نفسها – لا ينظر أتباع الأردوغانية إلى العالم من هذا المنظور الآن.
فيعتبر أردوغان ومؤيدوه أن صامويل هنتنجتون كان محقًا، هناك صراع حضارات، لكنه كان مخطئًا لأن المسلمين سيفوزون. ولا يرى أردوغان أن حلف الناتو هو بالضرورة ملتقى للدول التي تتشاطر الآراء نفسها وتتشارك قيمًا متشابهة، بل هو يعتبره ملاذه الأمني  حيث يضمن الأمن الذي هو بأمس الحاجة إليه في مواجهة روسيا.
ويجب ألا ننسى أن بوتين لن يعامل تركيا يومًا كقرين، رغم أن أردوغان ينظر إلى روسيا من هذا المنطلق. فبوتين سينظر دائمًا إلى تركيا على أنها قوة ثانوية، وفي حين تزعجه سياسات أردوغان في سوريا، يخشى أن يؤدي نجاح الإسلام السياسي في تركيا إلى إحياء مسلمي روسيا الذين تربطهم علاقات إثنية وتاريخية متينة بمسلمي تركيا.
وبالتالي، من مصلحة بوتين أن يحرص على ألا تتكلل مساعي أردوغان بالنجاح، وعلى الأخير أن يدرك ذلك. فعلى سبيل المثال، خلال الفترة التي سبقت استفتاء نيسان/أبريل في تركيا، نشر الموقع التركي لوكالة “سبوتنيك” أخبارًا معادية لأدروغان عدة مرات بشكل صريح ومباشر أكثر من تلك التي بثتها وسائل الإعلام الأجنبية التي تقدم خدمات باللغة التركية مثل “صوت أمريكا” و”دويتشه فيله” وقناة “الجزيرة” وشبكة “بي بي سي” مجتمعةً – حسبما ذكرت ناز توراك أوغلو.
ويدرك أردوغان أيضًا أن محيطه مليء بالأعداء، بمن فيهم الرئيس السوري بشار الأسد. لذا أظن أنه سيواصل الاعتماد على حلف الناتو لضمان الأمن ضد روسيا والأسد وضد إيران، لكنه لا يعتبر الحلف ناديًا يتشاطر معه قيمه الأساسية كما فعل أسلافه.
“ذي سايفر بريف”: ما هو برأيك موقف إدارة ترامب من هذا الاقتتال الداخلي في حلف الناتو بين تركيا وألمانيا وحلفاء أوروبيين آخرين؟ هل ترى أي مؤشرات على أن المسؤولين الأمريكيين قلقون إزاء هذه المسألة أو يحاولون التوسط؟
سونر چاغاپتاي: يحرص وزير الدفاع جايمس ماتيس فعلًا على ضمان علاقة جيدة مع تركيا، وهو ملتزم بتذليل أي عوائق قد تعترضها.
وهناك عدة مشاكل تشوب العلاقات الثنائية بين البلدين، بدءًا بالتعاون الأمريكي مع “وحدات حماية الشعب” السورية الكردية، مرورًا بقرار أنقرة بشراء أنظمة أسلحة روسية، ووصولًا إلى الخطاب المعادي للأمريكيين والأوروبيين والغرب الذي تدلي به تركيا على نحو متزايد. ولا يجب التغاضي عن هذا الخطاب لأنه استمر طيلة الأعوام الخمسة عشر الماضية، وقد بدأ يعد شائعًا لأنه يحظى بدعم مسؤولين حكوميين ووسائل إعلام موالية للحكومة. واستنادًا إلى آخر تقرير صدر عن “مركز بيو”، في حين يشكل تنظيم “داعش” والاحتباس الحراري وتدفق اللاجئين والهجمات الإلكترونية والانهيار الاقتصادي الشغل الشاغل لدول أخرى، باعتبار كل هذه المسائل تهديدات أساسية عالمية، ينفرد الأتراك من بين شعوب العالم برؤيتهم أن الولايات المتحدة هي الخطر العالمي الأكبر. فما من دولة أخرى تجري استطلاعات بقدر تركيا، وهذا الأمر ليس عرضيًا – بل يرتبط بمعاداة النهج الأمريكي الذي كان “حزب العدالة والتنمية” يغرسه في نفوس مناصريه منذ بروزه عام 2002، إلى جانب قضايا أخرى في إطار العلاقات الثنائية. وقد أصبحت مشاعر معاداة الولايات المتحدة هذه شائعة إلى حدّ كبير الآن في تركيا. ومن شأن ذلك أن يثير قلق الولايات المتحدة، وهو واقع يعيه الوزير ماتيس جيدًا.
بيد أن استعادة الثقة في العلاقة الأمريكية-التركية ستكون صعبة لأن الروابط العسكرية بين البلدين تضررت، وقد يكون حجم الضرر كبيرًا بحيث يستحيل إصلاحه على المدى القصير. ففي واشنطن، كان المسؤولون في الجيش الأمريكي هم أشد المناصرين لتركيا، حيث أن العمل مع الأتراك في العمليات التي نفذها حلف الناتو في البوسنة وكوسوفو في تسعينيات القرن المنصرم كوّنت لديهم انطباعات ممتازة عن الأتراك، وكانوا ممتنين للدور الذي اضطلعت به أنقرة في الانتصار خلال الحرب الباردة من خلال منع الاتحاد السوفيتي من الدخول إلى البحار الدافئة، كما أبدوا عمومًا دعمًا كبيرًا لأنقرة.
أما الآن، فنشهد العكس تمامًا. يمكنني القول إن أشد معارضي تركيا اليوم في واشنطن هم للأسف من عناصر الجيش الأمريكي نتيجة سلسلة من الأحداث، حصلت جميعها تحت إشراف أردوغان. فرفض تركيا الانضمام إلى حرب العراق عام  2003 وانهيار العلاقات التركية-الإسرائيلية وقرار تركيا شراء أنظمة دفاع جوي من الصين (رغم أنهم تراجعوا عن ذلك) وقرار أنقرة مؤخرًا بشراء صواريخ روسية، إضافةً إلى سياسة تركيا غير الصارمة التي سهّلت عبور المتطرفين إلى سوريا في إطار مساعٍ لتقويض الأسد – كلها عوامل تسببت بتدهور هذه العلاقة. وحتمًا، من وجهة نظر تركيا، كان تحفظ الولايات المتحدة عن دعمها بالكامل ضد “حزب العمال الكردستاني” خلال العقد الفائت – فضلًا عن القرار الأمريكي بتقديم الدعم الكامل لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية خلال معركتها ضد “داعش” في سوريا – سببين ساهما في تأزم العلاقة فعلًا.
وبالعودة إلى وجهة النظر الأمريكية، وبعد تدهور العلاقات طيلة 15 عامًا، أصبح الجيش الأمريكي على الأرجح من أضعف مؤيدي تركيا في واشنطن، وهذا أمر محزن. فقد فقدت تركيا أهم مشجع وداعم لها في واشنطن، ولا يمكنني أن أفكر في أي جهة ستحشد لتركيا في واشنطن الآن.
ويساور الكثيرين في واشنطن القلق أيضًا من انزلاق تركيا نحو نظام استبدادي، ويبدو ذلك واضحًا لأنه يشير إلى أن البلاد تتخبط في أزمة. وكما شرحتُ في كتابي “السلطان الجديد”، تتمثل الأزمة في أن نصف الشعب يبغض أردوغان والنصف الآخر يحبه. وإن كانت البلاد تتبع نظامًا ديمقراطيًا، فلا يمكن عندها لأردوغان أن يحكم كما يحلو له، لذا فهو يتخذ خطوات من شأنها القضاء على الديمقراطية. لكن النصف الذي يكرهه لن يستسلم أبدًا لهذا التوجّه، ما يعني أنه خلال الفترة المقبلة وفي أفضل الأحوال، ستبقى تركيا في حالة أزمة دائمة، تستنزفها الاضطرابات المحلية التي تعصف بها، وتعجز عن أن تكون حليفة قوية للولايات المتحدة أو أن تتعاون بشكل موثوق.

وتركّز الإدارة الأمريكية أيضًا على تركيا من منطلق محاربتها “داعش”. فهي تريد أن تضمن النفاذ المستمر إلى القواعد التركية التي تُطلق منها مهمات ضد التنظيم. لذا على المدى القصير، يبدو أن النهج المعتمد يتمثل في الحفاظ على العلاقة مع أردوغان، وهو السبب الذي دُعي من أجله لزيارة واشنطن. وفي الوقت الراهن، تريد إدارة ترامب التعاون مع أردوغان وليس صدّه. ويبدو أن هذا هو محط تركيز السياسة الأمريكية حاليًا.