القدس والأقصى… والحساب العسير

عرفان نظام الدين (الحياة)

يخطئ من يظن أن الحوادث الأخيرة في القدس المحتلة وممارسات إسرائيل الوحشية ضدّ المدنيين العزل أبناء الحق والشرعية والأرض هي بنت ساعتها، وأنها ستمر وتنتهي لحظة هدوء العاصفة وإيجاد حلول جزئية وهمية، مثل إزالة البوابات الإلكترونية من محيط المسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله وأسرى بالرسول (صلى الله عليه وسلم) إليه من المسجد الحرام.

هذه الحوادث حلقة من سلسلة متواصلة تهدف إلى تنفيذ خطة منهجية مبرمجة لهدم المسجد وبناء الهيكل المزعوم لسليمان بدأت باحتلال جزء من القدس في حرب النكبة عام 1948 ثم تواصلت مع احتلال الجزء الآخر في حرب عام 1967 واتباعه بإصدار قانون أساسي عن الكنيست (30/7/1980) بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل بعد ضم القدس العربية.

ولم تضيع إسرائيل وقتاً في البدء بخطط تهويد المدينة المقدسة عبر مصادرة الأراضي وإقامة المستعمرات الاستيطانية في شكل عشوائي لتفرض الأمر الواقع ومحاصرة الأراضي العربية وانتهاك حرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية وتهجير العرب وإفراغ المدينة من المسيحيين والمسلمين أبناء القدس أباً عن جد.

أما بالنسبة إلى المسجد الأقصى، فلم تتوقف المؤامرة يوماً بدءاً من عمليات الحفر بزعم البحث عن آثار الهيكل، لكن الهدف الأساس يكمن في تعريض أساساته للتصدع، ومن ثم هدمه ومنع إعادة إعماره تمهيداً لفرض الأمر الواقع ببناء الهيكل المزعوم. وعلى رغم أن الصهاينة لم يعثروا على أثر واحد يثبت مزاعمهم، فإنهم استمروا في ترديد الأكاذيب. ولم يكتفوا بالضم والتهويد والحفر، بل لجأوا إلى العنف والضغط لإجبار سدنة الحرم القدسي على السماح لليهود بالصلاة في حرم المسجد وللسياح الأجانب بزيارة المسجد وتدنيس حرمته، وقد نجحوا جزئياً في مصادرة مفاتيح باب المغاربة الرئيس وسمحوا لمن هبّ ودبّ بدخوله، فيما لجأ المتطرفون إلى تكرار الهجمات الأسبوعية والتعدي على المسلمين المصلين يوم الجمعة.

إلا أن أخطر حدث ضمن هذه الخطة الخبيثة وقع يوم الخميس في 21 آب (أغسطس) 1969 عندما أشعل الصهاينة النار داخل المسجد فأحرقت المنبر وبعض أجزائه، وكادت تقع الكارثة لولا أن هبّ سكان القدس لإطفاء الحريق وإحباط المؤامرة التي زعم الصهاينة أن شاباً أسترالياً مختلاً عقلياً يدعى مايكل روهان هو الذي ارتكب هذه الفعلة النكراء، فاعتقل لفترة وأودع في مصح للأمراض العقلية، ثم أفرج عنه. ولولا بعض المواقف الجريئة وبينها موقف الملك فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، لانتهى الأمر بلا حساب. فقد حشد أقطار الأمة العربية الإسلامية، وجرى إنشاء «منظمة التعاون الإسلامي» وحذّر العالم من خطورة هذا الإجرام الممنهج. وبعد ذلك دفع حياته ثمناً لنصرة القدس وإصراره على الصلاة فيها، ومن ثم استخدم سلاح النفط للمرة الأولى والأخيرة في التاريخ العربي المعاصر. ومهما قيل عن التحركات والاحتجاجات في تلك المرحلة، فإنها تعتبر إنجازاً كبيراً مقارنة باللامبالاة والتجاهل لانتهاكات إسرائيل وجرائمها الأخيرة في حق المسجد المبارك وأهل القدس المرابطين الذين ننحني إجلالاً لصمودهم وشجاعتهم، شيباً وشباناً ونساءً وأطفالاً، ومعهم الأخوة المسيحيون الذين تضامنوا وأدوا صلاة الجمعة جنباً إلى جنب في مشهد رائع هو فخر واعتزاز وتقدير يجسد الوحدة الوطنية والنضال الموحد ضد الاحتلال الغاصب.

أما مَن تقاعَس، أو حتى برّر العدوان، فإن حسابه سيكون عسيراً أمام الله ورسوله والأجيال المقبلة والتاريخ، وسيتصدر سجل العار لأنه خالف إرادة الخالق ورسوله والخلفاء الراشدين، وبينهم سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الذي أكد في العهدة العمرية التي أعطى فيها الأمان للمسيحيين في القدس حرمة أن يسكن فيها أحد من اليهود.

وعلى رغم ردود الفعل التي بقيت في حدود البيانات والشجب، فإن الإسرائيليين، وعلى رأسهم رئيسة الوزراء آنذاك غولدا مائير، تنفسوا الصعداء لهذا الأمر. وعبّرت الأخيرة عن فرحتها بقولها: «عندما أحرقنا المسجد الأقصى لم أنم طوال الليل، وكنت خائفة من أن يدخل العرب إسرائيل أفواجاً من كل مكان. ولكن عندما أشرقت شمس اليوم التالي، علمت أن باستطاعتنا أن نفعل ما نشاء، فنحن أمام أمة نائمة».

نعم، هذه الأمة بقيت نائمة ولا مبالية، بعضها يتلهى بالحروب والعنف والفتن، وبعضها الآخر يتلهى بالتفاهات والسفه، بينما يربي الصهاينة أولادهم على الحقد والكراهية والتخطيط لهدم المسجد الأقصى كحق مقدس.

وفي هذا السياق، تلقيت قبل أيام عبر وسائل التواصل الاجتماعي حواراً بين أساتذة وحاخامات وتلاميذ صهاينة صغار ترسم صورة واضحة ومخزية عن تربيتهم وتوجيههم وحقن السموم والأحقاد ضد الفلسطينيين، أصحاب الحق والشرعية والهوية والأرض، وتوجيههم نحو تنفيذ المخطط الصهيوني، وهذا بعض ما في هذا الحوار:

• عندما تذكر كلمة سلام أمامكم ماذا يخطر في بالكم؟

– البلد المقدس… بيت المقدس… الهيكل.

• من يعتقد أن الهيكل سيُبنى في السنوات القريبة؟

– رفع كل التلاميذ أيديهم تعبيراً عن موافقتهم!

• ماذا يوجد هناك، مكان البيت المقدس؟

– المسجد الاقصى.

• ماذا سيحصل للمسجد؟

– سيُهدَم… سينفجر… سيتحطم؟

وبعد، فإن هذا القليل القليل من شحن النفوس وتربية الأجيال الصهيونية على الحقد والقتل، وهذا ما يُدَبّر للمسجد الأقصى المبارك، بعدما جرى تهويد معظم أرجاء القدس الشريف، فماذا سيرد العرب؟ ومتى سيتحرك المسلمون لدعم إخوانهم المرابطين في الحرم الشريف ومسرى الرسول الكريم؟

حتى الآن لم نجد في ردود الفعل الرسمية، وإلى حد ما الشعبية، إلا الخزي والعار والاستسلام وعدم المبالاة بهذه الجريمة المنكرة. وباستثناء مواقف مشرّفة قليلة وتحركات شعبية خجولة، لم نشهد جهوداً جدية ولا مواقف حازمة وحاسمة ترد على هذه المحاولة الجديدة ضمن محاولات «جس النبض تمهيداً لتنفيذ المخطط الآثم».

وليعلم كل مسؤول وإنسان عربي أن حساب الله سيكون عسيراً لهذا التقاعس والتخاذل، كما أن حساب التاريخ سيفضح ما قام به هؤلاء في عدم نصرة إخوانهم، وينصف المجاهدين الأبطال الذين يدافعون بصدورهم العارية عن مسرى الرسول ومقدسات المسلمين.

ولهذا، لا بد من انتفاضة شاملة وفاعلة لإنقاذ الأقصى قبل فوات الأوان والعمل بكل الوسائل لوقف المخطط وإفهام إسرائيل والعالم أجمع، وعلى رأسه الولايات المتحدة، أن أي تهديد للمسجد المبارك لن يمر بسلام، بل سيشعل نار حروب كبرى واضطرابات لن تتوقف إلا بإحقاق الحق ونصرة المظلومين.

والمهم في أي تحرك هو الابتعاد عن العنف وتجنب ما يُسمى بالعمليات الإرهابية لأنها تخدم إسرائيل وأهدافها الخبيثة وتشوّه صورة نضال الفلسطينيين، وتُستغل لصرف أنظار الرأي العام العالمي عن القضية الأساسية.

فالمطلوب الآن هو دعم الانتفاضة السلمية بكل الوسائل والإمكانات وتوحيد الموافق والترفع عن الخلافات وتشديد الضغط على الدول الكبرى وحملها على ردع إسرائيل ووقف جرائمها وانتهاكاتها المقدسات الإسلامية والمسيحية.

فقد ضحى الآباء والأجداد دفاعاً عن القدس ودفعوا ثمناً غالياً لنصرتها وإنقاذها على يد البطل صلاح الدين الأيوبي الذي قاد عملية تحريرها من الغزاة الصليبين الذين حوّلوا المسجد الأقصى إلى زريبة لخيولهم وقبة الصخرة المشرّفة إلى مستودع لخمورهم، وها نحن نرى اليوم أقدام الصهاينة الوحشية تدنّس حرمة الأقصى وتدوس على قبة الصخرة، فيما يعمد المستعمرون (المستوطنون) إلى استفزاز المصلين بخشوع في شوارع القدس، ويمرون من فوق رؤوسهم ويدوسون على المصاحف الشريفة.

وأشير هنا إلى حدث تاريخي جرى التعتيم عليه، وهو موقف السلطان العثماني عبدالحميد الثاني الذي رفض كل الضغوط الصهيونية والأجنبية لمنح فلسطين والقدس الشريف لليهود، وعندما أصرّ على رفض قروض الترغيب بوعده بأموال وفيرة تآمروا عليه بإطاحته. وبكل أسف، فإن العرب شاركوا في المؤامرة بوعود بريطانية زائفة تحت عنوان ما يُسمى بـ «الثورة العربية الكبرى»، وكان السلطان المؤمن رد على الضغوط بوثيقة قال فيها: «إنني لا أستطيع أن أتخلى عن شبرٍ واحد من أرض فلسطين… فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية. لقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً، فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا شيء. أما أنا، فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين بترت من دولة الخلافة الإسلامية. وهذا أمر لن يكون لأني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن أحياء».

هذا غيض من فيض من جهاد المسلمين في سبيل فلسطين والقدس الشريف التي كرمها الله عز وجل في القرآن الكريم، كما كرّم الرسول في الإسراء والمعراج ليثبت لنا ولكل الأجيال أن طريق الجنة مع رسول الله يمرّ بالقدس وبالمسجد الأقصى المبارك.

وأختم مع هذا الدعاء، لعله يوقظ الضمائر النائمة ويعيد النخوة العربية الضائعة ويحيي الهمم التائهة: «اللهم إنا نستودعك المسجد الأقصى الذي باركت من حوله، والقدس الشريف وفلسطين العربية الجريحة وأهلها الكرام وترابها المعمّد بدم الشهداء وأمنها وأمانها. اللهم احفظهم بحفظك، يا من لا تضيع عنده الودائع، وأنت خير الحافظين. آمين».