العالم على مفترق طرق الارتداد إلى دوائر نفوذ ما قبل 1945

برونو ترتريه (الحياة)

نعيش في عصر انقطاع (في سياق السياسة الدولية) أو تشوش. فالعلامات التي نهتدي بها، سواء كانت جغرافية – سياسية واقتصادية أم ثقافية وتكنولوجية- ملتبسة وهي في طور التغير. ولكن ثمة مبالغة في حسبان ان النظام القديم كان مستقراً. وهذا، اي الاستقرار والقدرة على التنبؤ بمآل الأمور، لم يكن الانطباع السائد في الحرب الباردة! والواقع ان النصب الدولي برمته مزعزع الأركان اليوم: بدءًا بنظام تعدد الأقطاب الموروث من 1945 والتحالفات الغربية في الخمسينات؛ مروراً بمبادئ عدم انتهاك الحدود وعدم توسل القوة والقسر في قضم اراض؛ وتحرير التجارة الدولية والعولمة في التسعينات؛ وصولاً الى التدخل الليبرالي من اجل ترسيخ النظام الدولي، وهذا بلغ ذروته في العقد التالي.

وعلى رغم اهتزاز الأركان هذه، لا تزال كبرى المؤسسات الدولية راسخة القدمين: منظمة الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، والناتو، والاتحاد الأوروبي. والاتفاقات الكبرى المتعددة الأقطاب قائمة الى اليوم: ولم يلغَ بعد اي اتفاق تجاري سار، ووسائل ضبط اخطر الأسلحة، والنووية منها على وجه التحديد، في محلها. ويبدو لي ان ما يجري اليوم هو «تعليق» او استراحة موقتة في سيرورة ترسيخ التعددية القطبية والعولمة. والولايات المتحدة تتصدر القوى المتنافسة على النفوذ. وليس في مقدور أي قوة مضاهاة النفوذ العسكري الأميركي ولا شبكة القواعد العسكرية الأميركية الدائمة، ولا ابرام قدر كبير من التحالفات. ولا شك في ان قوة كل من روسيا والصين تتطور وتتعاظم، ولكنهما الى اليوم في مثابة أقزام قياساً على قوة اميركا. فهما عاجزتان عن التحرك خارج محيطهما المباشر. ولا يجمع اي منهما، في وقت واحد، بين الموارد الطبيعية وبين القدرة على الابتكار ودمج الابتكارات في آلة الإنتاج. ولا يملك اي منهما جاذبية اميركا الثقافية ولا قدرتها على استقطاب المهاجرين، ولا مثل موقعها الجغرافي السياسي. وهذا التفوق الأميركي لا ينتقص من عظمة الثورة الاقتصادية التي نقلت الى الصين إنتاج الشطر الراجح من السلع الاستهلاكية. ولا يقلل (التفوق هذا) شأن بروز الهند ودوران عجلة النمو الاقتصادي في جزء من افريقيا. ولا يجوز احتساب الجغرافيا السياسية بناء على معادلة محصلتها صفر: فالواصلون لا يطردون أو يطيحون الحاضرين. ولا يحاكي العالم لعبة الإستراتيجيا «غو» وقوامها التسابق مع الخصم على بسط النفوذ ومده، وهو ليس رقعة شطرنج كبرى. ولا شك في ان اميركا في مرحلة تقوقع وانطواء. وجاذبيتها تخبو بعض الشيء. ولكن لا تقوم قائمة للقول انها صارت «انعزالية». فهي اليوم تتدخل عسكرياً اكثر مما كانت تفعل في عهد اوباما. وروسيا هي في مثابة قرية «بوتمكينية» تتستر وراء قناع قوة عظمى، وهي تتسلح بمكانتها في مجلس الأمن وأسلحتها النووية- فهي صاحبة اكبر ترسانة في العالم. ولكن قوتها العسكرية لا تضاهي قوة الاتحاد السوفياتي العسكرية. وطوال 15 سنة امضاها فلادمير بوتين في السلطة لم يعالج ابرز مكامن ضعف روسيا: الاقتصاد المعتمد على تصدير المحروقات وأفول السكان بسبب سوء الأوضاع الصحية.

وشاب علاقة اوروبا بالتاريخ مشكلة مزدوجة الطابع في السنوات الأخيرة. ففي وقت اول، سعت الى ان تكون قوة طليعية ما بعد تاريخية، ولكنها ادركت بعد لأي ان التاريخ لم ينته. ثم خشيت اوروبا ان «تخرج من التاريخ»، اي ان يطوى دورها ويأفل، حين عصف بها تقاطع ازمة اليورو مع ازمتي المهاجرين والإرهاب. ولكن الاتحاد الأوروبي أرسي على اسس عظيمة، وغالباً ما يساء تقدير قوته السياسية. وخسر زملاء اميركيون وبريطانيون كثر الرهان على ان اليورو لن ينجو من عواصف الأزمة اليونانية… ولكن اوروبا تمضي قدماً وتشد اواصرها على وقع الأزمات. واليوم يجبه الاتحاد الأوروبي تحديات جديدة ترتبت على بريكزيت (انسحاب بريطانيا من الاتحاد) وانتخاب دونالد ترامب. وأرى ان التحديات هذه هي فرصة سانحة امام الاتحاد الأوروبي اذا لم ينزلق الى اخطاء الماضي، اي الى مباشرة مشاريع مذهلة من دون التزام مقتضياتها. فعلى سبيل المثل، صك اليورو، العملة الموحدة، من دون تنسيق السياسات الاقتصادية، وأرسيت منطقة شنغن من دون رقابة فعلية على الحدود الأوروبية الخارجية.

ورفضتُ في وقت اول تشبيه حوادث اليوم بالعودة الى الحرب الباردة. ولكن هذا التشبيه مصيب بعض الشيء. فروسيا البوتينية تلتزم مشروعاً انتقامياً يرمي الى بعث مجدها الآفل وترجيح كفتها على كفة الغرب، وهي تسعى الى تقسيم اوروبا وتتوسل الى غايتها هذه الوسائل كلها. وهي تقترح ايديولوجيا على حلفائها في اوروبا بديلة عن اطار الاتحاد الأوروبي: خليط من استبداد سياسي وارتكاس اجتماعي يزعم الاستناد الى «القيم الأوروبية الحقة». وتخوض موسكو حرباً «شاملة» أو «كلية» من اجل بلوغ هذه الأهداف، على رغم انها تتعاون مع الاتحاد الأوروبي في جبه بعض الأخطار المشتركة. وتفوق خطورة روسيا البوتينية في بعض المسائل خطورة الاتحاد السوفياتي، وهذا كان قوة أمر واقع تدافع عن «مكتسباتها» وتمتنع عن الاستفزازات الكبيرة. والخطوات الروسية في اوروبا تحمل على توقع الانزلاق الى الأسوأ. والسبيل الى فهم الحاضر هو النظر الى سوابق تاريخية. ويبدو ان العالم يعود الى «سابق عهده»: اي الى التنافس الجغرافي – السياسي الكلاسيكي الذي طوي في 1945. وهذه خلاصة لا يستخف بها، فهي تشير الى ان مرحلة 1945-1990 كانت حادثة تاريخية استثنائية خارجة على ديدن التاريخ. وهذا رأي بعض المسؤولين الأميركيين.

وأستبعد ان يُبرم، في العقدين المقبلين، تحالف بين روسيا والصين، فيما خلا التعاون التكتيكي بينهما. فمسائل الخلاف بين موسكو وبكين كبيرة، والحذر يغلب على علاقاتهما. وتقاربهما قد ينجم عن وقوع اضطراب سياسي ضخم في موسكو او بكين. وإذا استندنا الى التقرير الأخير الصادر عن «مجلس الأمن القومي» الأميركي، العالم امام منعطف ثلاثة مآلات. أولها، يتنبأ ببروز «عالم من الأرخبيلات» أسميه «عالم ترامب»، وهو عالم التقوقع على النفس؛ وثانيهما يتوقع بروز «عالم دوائر نفوذ»، وهذا «عالم بوتين»، وركنه التنافس الجغرافي السياسي؛ و «عالم الجماعات» وفيه تتبدد الدول وترجح كفة المدن والشركات وشبكات التواصل…، وهذا «عالم بيل غايتس». وأتوقع ان العالم في 2030 سيجلو على صورة هذه المآلات الثلاثة مجتمعة.

* خبير في الشؤون الدولية وشؤون الدفاع، عن «ليبراسيون» الفرنسية