كشف الخلل في بنية الأنظمة العربية بعد نصف قرن من هزائم 1967

د. طارق خليل

مر خمسون عاما على نكسة 1967 إثر العدوان الإسرائيلي على جمهورية مصر العربية والتي كانت هزيمة كبرى لا زلنا نتحمل مفاعيلها حتى الآن، فهي لم تكن فقط هزيمة عسكرية بل كسر حلم الأمة العربية المتمركزة حول القضية الفلسطينية. مما يستدعي التساؤل حول الواقع البنيوي لتلازم الهزيمة العسكرية مع تراجع مفهوم الأمة العربية؟

لقد كانت مصر الرائدة في استنهاض القومية العربية وخلق قواسم مشتركة بين جميع مكوِناتها فكانت الوحدة المصرية-السورية (1958-1961) كما سبقها تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، ونسج تحالفات مع قوى التحرر العالمي، ودعم الثورة الجزائرية واعتبار فلسطين جزءا لا يتجزأ من هويتها. مما لا شك فيه أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان المحرّك الأساس لما بات يعرف بالناصرية التي أصبحت تمثل لاحقا إحدى أضعف القوى المؤثرة في الحكم في مصر. فلماذا لم يترك هذا العملاق السياسي تأثيرا كبيرا في نظام الحكم بعد رحيله؟ بل حصل إنقلاب جذري وسريع على كل ما قام بتأسيسه على مدى 18 عاما في الحكم. فنتساءل هل كان جمال عبد الناصر رجل دولة أم رجل ثورة؟

عبد الناصر

كما يبدو، لم يستطع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن ينتقل إلى نظرة تأسيسية في الحكم كما تبلورت عند:نابليون بونابارت إثر قوله “لا قدم ذهبية حمراء ولا قبعة حمراء (لا أرستقراطية ولا ثورية)” وتأسيسه كلية العلوم مقابل الكنيسة الكاثوليكية على رغم الهزيمة العسكرية في واترلو التي أدّت إلى نفيه وإنهاء حكمه ومن ثم  مع شارل ديغول حول الجمهورية الفرنسية الخامسة (دخول فرنسا المنتدى النووي، إنهاء إستعمار الجزائر)، نيلسون مانديلا في إيجاد توليفة حكم تؤمّن الإستقرار الإجتماعي بين البيض والسود في دولة جنوب إفريقيا، فيدل كاسترو في ترسيخ النظام الشيوعي في منطقة قريبة جغرافياً من الولايات المتحدة الأميركية (دولة الشركات)، والمهاتما غاندي في تحقيق ثورة سلمية في وجه الإستعمار الإنكليزي، كلٌ ضمن مواقع ومعطيات مختلفة.

غاندي

إنّ ثورة يوليو 1952 حدثت في حقبة حيث كانت معالم الدولة الحديثة قد اتّضحت في أطرها المؤسساتيّة كأنموذج قابلٍ للتكيُف مع متطلِبات المجتمعات حول الحرية والعدالة الإجتماعية، ولكن كانت القراءة الناصرية الإشتراكية ذات قالب إستزلامي قائم على بعض الرجالات الموثوقين والشواهد كثيرة (عبد الحكيم عامر، أنور السادات وغيرهم)، أمّا النتيجة فلم تقتصر فقط على الهزيمة العسكرية المدوِية في الخامس من حزيران عام 1967 بل كشفت لاحقا الهوّة الكبرى بين ما هو ظاهر من النظام من خلال الشعارات والخطابات وبنيته- كما أرساها الرئيس عبد الناصر- القائمة على الحذر من الإنقلابات العسكرية وحرية التعبير. إذا، أدّت هذه التركيبة للنظام (1952- 1970)، أقله، من ناحية إلى ترسيخ جمال عبد الناصر في صورة رجل الثورة الذي صدق في رفع قضايا الشعب المصري إلى مستوى المواطنة والمجتمعات العربية إلى مستوى الأمة العربية، ومن ناحية أخرى إلى تثبيت مراكز قوى في السلطة أدّت وبسهولة نسبية إلى الحكم العائلي\ العسكري مع أنور السادات ومن بعده حسني مبارك من دون أية إلتزامات بما تمّ النضال من أجله لعقدين من الزمن. خلاصة القول، لم يقم الرئيس جمال عبد الناصر بتغييرات سمحت بتحديث واستنهاض أجهزة للسلطة تُثبّت نوعا من العزلة الطوعية التي تضمن استقلالية الدولة عن المتغيرات الخارجية والتبعية لها.

القدس 1967

أضف، إنّ مشاريع التفتيت لمنطقة الشرق الأوسط (منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية حتى النسخة الآخيرة من التفتيت المسمّى بالشرق الأوسط الجديد أو الفوضى الخلاّقة) ليست محصورة فقط في دائرتها بل نشأ امتداد لشعاعها منذ تمأسس الرؤية الإستعمارية (محرِك السيطرة) عند الغرب القائمة حسب فردريك معتوق على كوكبة المحركات الذهنية :الهيمنة، المجادلة السياسية، المعرفة، التنظيم والربح وعلى نجاحه في التحكم بها (را: ف. معتوق، مرتكزات السيطرة الغربية، دار الحداثة)، أمّا ما عُرف بالمستشرقين فقد ظهروا أيضاً في أفريقيا، أميركا اللاتينية وآسيا حيث دأبواعلى تحويل الكثير من مناطقها إلى مستعمرات قاموابمسح هويتها في إطار عولمة الثقافة (را: أ. ماتلار، التنوع الثقافي والعولمة) كما نجح آخرون في التفاعل مع هذه العولمة وأصبحوا جزءاً مؤثراً فيها. بمعنى آخر أصبحوا غرباً كاليابان، كوريا الجنوبية، روسيا الإتحادية، والصين حيث باتت تتحول هذه القوى إلى شريك في النظام المعولم إقتصادياً (را: م. ضاهر، النهضة العربية والنهضة اليابانية). إذاً، لماذا لم يستطع العالم العربي أن يتفاعل في حضارة معولمة؟قال إبن خلدون ’’إنّ اتّباع التقاليد لا يعني أنّ الأموات أحياء بل أنّ الأحياء أموات‘‘ فهذه العبارة إن كانت تشير فهي تدل إلى الخلل في إتّباع الخطابات التي تكون المشاعر والأحاسيس حاضرةً فيها بقوّة وهذه بدورها كفيلة في إشباع شغف الجمهور من دون أن تكون مبنية على رؤية كفيلة في ترسيخ الثوابت المنشودة في تكوين هوية المواطنة وآليات تكيّفها.

كمال جنبلاط

إستطرادا في سياق هذا التحليل البنيوي ونحن على مشارف الذكرى المئوية لولادة المعلم كمال جنبلاط نجد لا بد من إبراز  أنموذج رجل الدولةالذي جسّده كمال جنبلاط في العالم العربي.فعلى الرغم من العلاقة الشخصية التي قامت على الإحترام والتقدير العميق بين كمال جنبلاط وجمال عبد الناصر ورؤيتهما الثورية اتجاه العديد من قضايا الأمة وبالأخص القضية الفلسطينية، لا بد من الإشارة إلى تباين أجده أساسيا بين هاتين القامتين. فلقد حدّد كمال جنبلاط عقم النظام السياسي اللبناني القائم على تسييس الطوائف الممنهج وضرروة مواجهته وتغييره إنسجاما مع قوله: لبنان وطن نفتديه وليس بملجأ نرتضيه. هكذا، لم يكتف فقط بإطلاق خطاباته في المجلس النيابي (إقرأ خطابه في 6\12\1949 في زمن الصفقات… دولة ضمن الدولة، مطالعته في الدفاع عن أنطوان سعاده\را. ك. جنبلاط، آراء وكلمات في البرلمان، الدار التقدمية) بل أعلن ثورة أيلول 1952 (تشكيل الجبهة الإشتراكية الوطنية بوجه بشارة الخوري) ورخّص للأحزاب السياسية وناصر النقابات (التبغ مع السيد هاني فحص، الصيّادين مع الشهيد معروف سعد، المزارعين،…) ودعم الجامعة الوطنية إيمانا منه بأنّ ممارسة السياسة هي الآلية أو الوسيلة لتحقيقق رؤيته نحو مجتمع أكثر إنسانية، كما ذهب إلى طرح برنامج إصلاحي سياسي- إقتصادي عام 1974 إنسجاما أيضا مع رؤيته التي عبّر عنها في إحدى خطاباته عندما قال:

لتتحطم جدران الطوائف فيبقى لبنان الحقيقي شعبا ودولة يمثّل على هذه الأرض الكريمة نبضة حيّة للأمّة العربية كلّها. فمن خلال هذه العبارة اختصر المعلّم البعد الأممي لتجربته في محاولة إعادة تركيب لجمهورية استُحدِثت بجغرافيتها وهويتها. بطبيعة الحال، نعلم أنّ مجريات الأحداث أدّت إلى عدم قطف ثمار عقود من النضال باستشهاد المعلّم وإدخال لبنان السجن العربي الكبير هذا السجن الذي أنتجته الأنظمة السياسية العربية، وحكماً مصر، التي رفعت ولا زالت شعارات مغايرة لطريقة حكمها. أمّا بعد، وفي ذكرى المعلم التي لا تغيب عن عقولنا يأتي ذكرالكثير منالأحداث المفصلية لتأكيد الرؤى المتقدمة في مسيرة الحزب التقدمي الإشتراكي والتي لا زالت صالحة بناءً على التساؤلات التي نذكرالبعض منها:

1- هل أصبح الجمهور علمياً وعقلانياً لإمكانية تعاطي السياسة بعقلانية؟

2- هل يعي الجمهور الفرق بين السياسي الباحث عن قضايا الناس والمحترِف السياسي الباحث عن أصوات الناخبين؟

3- هل أصبح المجتمع اللبناني منسجماً في رؤيته نحو الجمهورية اللبنانية؟

4- هل تتجه البشرية نحو تطويع الآلة ورفض حضارة الإستهلاك؟

أمّا بعد وفي هذا المنحى نستطيع أن نفسّر أيضاً ما يجري من تفكيك للعالم العربي بمُعامِل خارجي ويُعمَل على إعادة تركيبه بوسائل تتناسب مع المصالح التي يقتضيها الخارج. وهنا تكمن الخطورة: أنّ التغيير لم يأت أو لم يُسمح له بأن يكون من الداخل، وها نحن نعيش الآن مظهر التحوّل الأخطر في مقاربة قضايا الأمّة على أساس مذهبي واعتبار القضية الفلسطينية إشكالية محلّية ضمن إشكاليات متفرّعة على مساحة العالم العربي.أمّا الخلافات الداخلية الفلسطينية فلقد تفاعلت مع هذه المتغييرات بشكلٍ سلبي حيث بات البعد المذهبي للقضية يطفو مقابل البعد القومي والفساد ماثل داخل السلطة والصراعات في المخيّمات اللبنانية تعبّر عن فوضى كبيرة أصبح ضبطها يزداد صعوبة متسائلين عن معنى كل ما يحصل خارج إطار ضرب القضية الفلسطينية وبالتالي مفهوم العروبة كما نعيها في ثقافتنا الحزبية، لذلك ندعو القوى الفلسطينية إلى المزيد من الوعي للمخاطر ومنها العمل العدواني على طمس هوية الثقافة الفلسطينية، فأين ناجي العلي، محمود درويش، غسان كنفاني، مي المصري (مخرجة فيلم 3000 ألاف ليلة) وغيرهم في أدبيات جيل الشباب العربي الحالي؟ وهل برامج النقاشات السياسية، المواهب الأجنبية، وغيرها على أهميتها هي البديل الصالح؟ إنّ الفشل في تفعيل هوية الأمّة العربية من خلال التبادل الثقافي-الإقتصادي وتحويل اللّغة العربية إلى لغة علمية تُدعّم تفعيل المراكز البحثية لتشكّل قطباً ومنارةً على مدى الجغرافيا العلمية العالمية (را: ط.خليل، تحولات العالم العربي: بدأً من وسائل التواصل وصولاً إلى الهوية، مجلة شؤون الأوسط)، بلغ من الضعف مرحلة ما يشبه التخلّي عن القضية الفلسطينية كآخر مدماك في هيكل الأمّة العربية.

فلسطين

أمّا لبنان فهو في جغرافيته الغنيّة وتأريخه المعقّد، كطائر الفينيق يحمل على جناحيه مسيحيي المشرِق والقضية الفلسطينية، إذ تُشكّل هاتين الأيقونتين الأولى لتنوّعها والثانية لأحقّيتها، الأرومة الفريدة للعالم العربي. لذلك لبنان أمام مفترق طرق لإعادة استنهاض دوره،كنبضة حيّة للأمّة العربية، كما أراده المعلّم كمال جنبلاط ، وللحزب الإشتراكي بتفاعله في مختلف قضايا الوطن دوراً ريادياً يتوجب علينا أن نتعاطى على مستوى عقل الأمّة وهذا ما يجسّده الرفيق الأستاذ وليد جنبلاط في تعاطيه مع قضايا بمستوى قانون الإنتخابات النيابية لناحية الحفاظ على التعددية الموجودة في لبنان وبتصويبه دائماً الوجهة نحو القضية الفلسطينية كقضية مفصلية لما تُشكّل من تحدٍ لتحفيز مكوّنات هذه الأمة نحو رؤيةٍ مُوحَّدةٍ بدأت مع جامعة للدول العربية ولن نقبل أن تنتهي كحقل تجارب لعولمةٍ لا يكفي أن ندّعي في منظومتها أننا أصحاب حق حتى يتم الإعتراف بنا بصفتنا مؤهّلين لإحقاق الحق.

أهمية_الوطن_العربي

آخيراً، على العالم العربي بمجمل تركيباته وتلاوينه أن يكف عن إنتاج الضرورة العقلية على قياس معتقدات تُهمّش العقل النقدي (وعي العقل لذاته) مقابل العقل التبريري اللاموضوعي. وعلى البعض من مكوّنات المجتمع اللبناني أن تجيب كيف للبنان أن يتحوّل إلى مركزٍ فكري إبداعي على صعيد التواصل بين الشرق والغرب وتسمح لنفسها بطرح حلول حتّى لو رُفِضَت فهي تُؤشّر إلى قابليتها في ترسيخ المذهبية ولا تسمح حتّى التلاقي بين أطياف المجتمع اللبناني؟ إقرؤا عالِم الإجتماع الأميركي تالكوت بارسونز واذهبوا إلى نسقٍ جديد يتميّز عن النسق الحالي بطرح مواجهة المتغيّرات في ظل عامل أساسي لمقاربة الأمور: بنية عولمة الشركات التي تسمح لنا أن نفسّر ظاهرة حكم الشركات\ الأشخاص كم هيمِن محتمَل مواز أو بديل لمؤسسات الدولة، بالأخص الدولة الغنائمية\ الذئبية التي يسهل تفكيكها كما هو حاصل في المشهد العربي.

 

(*) عضو مجلس قيادة الحزب التقدمي الإشتراكي.