جردة حساب عربية واصطفافات ما قبل التسوية

د. بهاء ابو كروم (الحياة)

المُتغيّر الذي يستدعي جردة الحساب العربية الجارية اليوم يتعلق بوجهة الصراع الجديدة في المنطقة، صراع يحمل طابع المحاور الدولية والجبهات التي أفضى اصطفافها إلى إجهاض التوجهات الداخلية للتغيير بخاصة في سورية، بينما تقلبت السياسات الأميركية جوهرياً في مرحلتي الرئيسين أوباما وترامب وموقفهما المتفاوت تجاه الإسلام السياسي وأنظمته. فإدارة أوباما التي عارضت إسقاط الرئيس عبدالفتاح السيسي لنظام «الإخوان» في مصر وأوقفت إمداد جيشه بالمعونات الأميركية، قابلها ترامب برفض شراكة تحالف الإسلام السياسي في مشروع مستقبل المنطقة ورَبَط مسألة تحجيم دوره في الحملة على التطرف. وكل محاولات أردوغان لترتيب أدوار مُشرعَنة له في شمال سورية لم تفضِ إلى قناعة أميركية بذلك، إذ يظهر أن صورة هذا الرجل في عقل ترامب هي صورة أحد زعماء «الإخوان المسلمين» لا أكثر، وتتصرف تركيا تجاه الأزمة الناشئة مع قطر كما لو أن دورها في العزلة والإقصاء نتيجة منهجها الإخواني قادم لا محالة!

دور تركيا في التصور الأميركي للمنطقة يشوبه كثير من التساؤلات، فحيث قدمت تركيا خدمات اقتصادية لإيران أثناء العقوبات القوية التي فُرضت عليها، دخلت معها في ترتيبات آستانة لتشريع الحضور الإيراني على الأرض السورية مُنقادة بالهاجس الكردي لا أكثر، هذا التلاقي المصلحي ينقلها من ضفة إلى أخرى قياساً على الموقف من الأكراد ويضع صدقيتها على المحك.

أعاد ترامب الملف الفلسطيني إلى الواجهة ووَضَعَه مع الملف السوري في مقدم المسائل التي تستدعي الفرز على أساسها، وبالتالي فالاصطفاف الظاهر لقوى المنطقة يقوم حالياً على هذا الأساس: تركيا مُستبعدة عن الحل في الرقة ودير الزور وأمامها كيان كردي ناشئ كأمر واقع يصعب إعاقة تحققه، والفصائل الإسلامية في الثورة السورية واقعة بين خيارات الحصار المادي أو الالتحاق بالأجندة الدولية. وقد أرخت التناقضات التي تجاذبت القوى المنضوية تحت مسمى الإئتلاف الوطني بثقلها على التماسك الداخلي للثورة، وفشلت في رسم معالم ليبرالية للبديل عن الرئيس السوري بشار الأسد، بما انعكس سلباً على كل الثورة التي لاحقتها عقدة التطرف والتشتت والمؤثرات الإقليمية. وبمجرد ذهاب المعارضة إلى آستانة واضطرارها إلى مجاراة ثلاثي إيران- تركيا- روسيا فذلك يعكس مأزق فقدانها الحاضنة الإقليمية القوية التي كان يُعوّل على تركيا تأمينها من دون غايات نفعية.

الاستحقاق الفلسطيني يدفع بدوره إلى استقطاب جديد على خلفية الأفكار التي يُحضر ترامب لطرحها على شكل مبادرة مُعوّلاً على انخراط الأطراف العربية (المملكة العربية السعودية، الأردن ومصر)، ما يؤدي تلقائياً إلى استبعاد إيران وتركيا اللتين تجمعهما «مصيبة» الأكراد ومسار آستانة، بما يذكّر بالانقسام الذي حصل على خلفية مسار كامب دايفيد وخروج مصر من الصراع العربي- الإسرائيلي عندما اجتمع المتضررون في جبهة «الصمود والتصدي». هذا التوجه الذي يعيد الموضوع العربي للعرب أنفسهم، استشرفه نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف عندما تحدث خلال جلسة عامة لمجلس النواب الروسي (الدوما) عن الدول العربية بعد قمة الرياض معتبراً أنها أصبحت فاعلة في قرارات المنطقة، ولم تعد الدول الإقليمية الثلاث تركيا وإيران وإسرائيل من أصحاب القرار في العالم العربي.

هذا يشير إلى أهمية التحول الاستراتيجي في المسار الشرق الأوسطي الذي تُميّزه حالياً ملاقاة الولايات المتحدة لمحور عربي- إسلامي، تجسّد في قمة الرياض وجمَع مصر والسعودية في استراتيجية واحدة.

الاصطفاف المقابل لذلك موجود أصلاً، لكن السؤال هو عن توابعه ومكملاته التي يمكن أن تضم تركيا وقوى الإسلام السياسي التي تبحث عن شراكة هي الأخرى، طبعاً شراكة مصلحية تجمعهم بمحور إيران في مشروع واحد متناسياً تناقضاته الجوهرية في سورية.

وهذا الاستقطاب يضع تركيا وقطر وحركة «حماس» أمام خيارات محددة وحاسمة لا سيّما أن المظلة العربية التي طرحت مبادرة الملك عبدالله عام 2002، تعيد التركيز على المعبر الفلسطيني لأي حل شامل في المنطقة. وهذا المعبر كلّما كان فلسطينياً عربياً أتى أُكله أكثر!