أوروبا بعد الـ «بريكزيت»

كارل بيلدت (الحياة)

يتغير توازن القوى في أوروبا إثر «بريكزيت». وبدأ وجه أوروبا ما بعد الانسحاب البريطاني يرتسم. ومآل الأمور وثيق الصلة بطريقة إدارة عملية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فالعواصم الأوروبية تريد شراكة بناءة مع المملكة المتحدة. ولكن قد تقود المواجهة الخطابية القائلة إن «لا اتفاق أفضل من اتفاق سيء» الى انهيار العلاقات بين الاتحاد والمملكة المتحدة. ومدة عملية الانسحاب طويلة، وفي الامكان تفادي مثل هذا الانفصال الحاد. ولكن على أي وجه ستجلو الشراكة مع بريطانيا حين تجبه الأمم الأوروبية مسائل كثيرة قد تطرأ في هذه الأوقات العصيبة والغامضة في غياب المشاركة البريطانية في قمم الاتحاد؟ فقد تندلع أزمة مالية جديدة أو يقع عدوان روسي، أو تتفاقم وتيرة «ذوبان» (انهيار) الشرق الأوسط. وإذا كانت عملية «بريكزيت» مرنة، وسع إرساء أواليات «شراكة خاصة» أوثق من الشراكة بين بريطانيا والولايات المتحدة. ولكن إذا كانت عملية الـ «بريكزيت» عنيفة، خلفت آثاراً سياسية لا تندمل قبل سنوات.

وكان دور بريطانيا، على رغم تناقضاته، راجحاً في تحديد وجهة تطور الاتحاد الأوروبي. وكانت في العقود الأخيرة رائدة الدعوة الى السوق الواحدة، والتجارة الحرة، والتنافسية والتوسع. وساهمت في ترجيح كفة مساعي إرساء سياسة خارجية أوروبية مشتركة.

ونظر كثر الى المملكة المتحدة على أنها قوة موازنة تقيد غيرها من الدول التي تميل الى نهج أكثر انغلاقاً على المستويين الاقتصادي والسياسي. والتوتر في عدد من العواصم الأوروبية كبير. ومآل الأمور وثيق الصلة بالعلاقة بين باريس وبرلين في السنوات المقبلة. وفي وقت تتحدث الأولى (باريس) عن الإصلاح في بروكسيل، تنتظر الثانية إصلاحات في فرنسا.

ومضي أوروبا قدماً، لا ينفك من تنفيذ فرنسا في عهد إيمانويل ماكرون وعدها بالإصلاح والمضي الى الأمام. وفي الأثناء، تتعاظم هيمنة برلين في الاتحاد الأوروبي. وليست انغيلا مركل الراشد الوحيد، أي الجهة القادرة على اتخاذ قرارات عقلانية، في الاتحاد فحسب. فالألمان يشغلون مناصب بارزة وحيوية في أصقاع الاتحاد الأوروبي.

وطالما كانت مركل في السلطة، طافت سياسة أوروبا حول المستشارة الألمانية وليس حول المفوضية الأوروبية.

ولا يخفى برلين أخطار التمادي في نفوذها. فدروس التاريخ القريب حاضرة في نفوس الساسة الألمان. وثمة إجماع مضمر في عواصم الاتحاد الأوروبي على أن باريس هي التي تقترح ولكن برلين هي التي تقرر وهي صاحبة الكلمة الأخيرة. ومع الوقت قد تتغير الأمور. فإذا أرست باريس إصلاحات اقتصادية بنيوية، وراوحت ألمانيا في مكانها ووقعت في شباك تعقيدات الائتلافات السياسية إثر الانتخابات، زادت جاذبية الإليزيه.

وفي السنوات الأخيرة من رئاسته، أبرم فرانسوا هولاند سلسلة اجتماعات «أوروبية جنوبية». وكانت هذه الاجتماعات مرآة سعي باريس الى دور بارز في جنوب الاتحاد الأوروبي. ومع الوقت، أتوقع أن تزداد شهية مدريد الى دور أكبر في الاتحاد، بناء على تحولها الاقتصادي الناجح ونجاحها في الخروج من الأزمة. وفي وقت قد تهمش فرنسا دول وسط أوروبا، وترجح كفة نواة أوروبية، لا تغفل ألمانيا أنها في قلب الاتحاد الأوروبي وأنها تقع في جوار أكبر عدد من الدول، وتميل الى نهج أكثر شمولاً أو شمولية. فحدود بون، عاصمة ألمانيا الغربية، كانت أقرب الى باريس، بينما حدود برلين هي أقرب الى بولندا. والغموض الى اليوم يلف قدرة دول الشمال الأوروبي على التعاون. ففنلندا تميل الى التعاون الأوروبي الدفاعي، في وقت أن السويد منقسمة في الرأي حول هذا التعاون ومترددة، والدنمارك تبدو غير معنية بالأمر، ودول البلطيق تركز على «الناتو» وتنشغل بالتعاون «الأطلسي».

ولا شك في أن الاتحاد الأوروبي ما بعد الـ «بريكزيت» مختلف عما كانت عليه حاله الى وقت قريب.

 

* رئيس وزراء السويد السابق، عن «فايننشل تايمز» البريطانية