القضاء بين إستعادة الثقة والإصلاح: إستذكار لما قاله كمال جنبلاط!

فريد محمود

بتاريخ 16 أيلول سنة 1983 صدر المرسوم الاشتراعي رقم 150 بعنوان “قانون القضاء العدلي”، من ضمن ما تضمنه هذا القانون أو المرسوم الاشتراعي أحكام تتعلق بالتشكيلات القضائية وذلك في المادة الخامسة منه.

المادة المذكورة نصت على أن مجلس القضاء الأعلى يضع التشكيلات ويعرضها على وزير العدل للموافقة عليها، وفي الفقرة (ب) من المادة عينها يقرر المشرع ان التشكيلات لا تصبح نافذة إلا بعد موافقة وزير العدل عليها، وتتابع الفقرة المذكورة لتقرر أنه في حال حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى تعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلفة عليها.

المشرع في حينها لم يغفل عن باله امكانية عدم التوافق بين الوزير والمجلس فاحتاط للأمر وقرر انه في هذه الحالة لمجلس القضاء وبأغلبية موصوفة الاصرار على قراره على أن يرفع الوزير اقتراح التشكيلات التي قررها مجلس القضاء إلى مجلس الوزراء لتصدر بمرسوم.

من الناحية العملية عانى مجلس القضاء الأعلى الأمرين، لا سيما في السنوات الاخيرة، خاصة منذ العام 2000 تقريباً، فكان المجلس يضع مشروع التشكيلات والمناقلات ويرفعه الى الوزير الذي غالباً ما كان يدخل في نقاش ومساومة مع مجلس القضاء الأعلى، الذي كان أحياناً يقبل بالمساومة لان تجربته علمته بأنه إذا لم يأخذ ببعض مطالب الوزير، وإن كانت غير محقة أحياناً، فإن المشروع سينام في درج مكتبه الى ما شاء الله.

يرفع الوزير المشروع الى مجلس الوزراء فيصطدم مجلس القضاء بمطالب خاصة برئيس الحكومة، وإذا ما قُدر للمجلس هضم هذه المطالب يعود الاقتراح ليصطدم بموقف فخافة الرئيس ويعود المجلس ليدور في دوامة من الحسابات الخاصة والمحسوبيات تترجم في رغبة جهة فاعلة في حفظ مراكز معينة لقضاة معينين.

هذا الواقع انعكس على عمل القضاء، لأن ندرة التشكيلات القضائية تركت العديد من القضاة في اماكنهم لمدة طويلة جداً، وهذا أمر له انعكاسات سلبية في عمل أي سلك قضائي أو غير قضائي، من ناحية ثانية أصيب العديد من المراكز القضائية بالشغور مما أجبر مجلس القضاء اللجوء إلى الانتدابات المؤقتة بحيث أصبحت العديد من الدوائر القضائية تعمل من خلال قضاة منتدبين وغير أصيلين في مراكزهم، وأيضاً هذا الاجراء له انعكاسات سلبية على عمل القضاء مثله مثل أي سلك آخر يعمل من خلال موكلين غير أصيلين في مراكزهم. الأخطر من كل ذلك ان هذه الممارسات تدفع يومياً بعدد من القضاة إلى مراعاة خواطر السياسيين لتولي مراكز حساسة أكثر من سواها.

justice

أمام هذه الحالة وأمام بطء عمل القضاء، الناتج عن الواقع المذكور، تقدم النائب روبير غانم باقتراح قانون يرمي إلى تعديل المادة الخامسة من المرسوم الاشتراعي رقم 150، أي قانون القضاء العدلي. هذا الاقتراح يبقي على صلاحية مجلس القضاء الأعلى لجهة وضع مشروع التشكيلات ورفعه الى وزير العدل الذي له إبداء ملاحظاته إن لم يوافق عليه، ويدعو مجلس القضاء الأعلى لاجتماع مشترك بهدف النظر في النقاط المختلف عليها خلال خمسة عشر يوماً، وإذا لم يحصل الاتفاق خلال هذه المهلة، لمجلس القضاء الإصرار على موقفه ولكن ضمن أكثرية ثلاثة أرباع أعضائه، ويصبح قراره هذا نهائياً ودون حاجة لأي إجراء آخر.

أُقر الاقتراح في لجنة الإدارة والعدل في شهر نيسان من العام 2016 ورُفِع إلى الهيئة العامة لمجلس النواب وأدرج على جدول أعمالها في جلسة 17 و18 كانون الثاني من العام 2017. عندما طُرح الاقتراح المذكور للنقاش طلبت الحكومة مهلة شهرين لدرس الاقتراح وإبداء ملاحظاتها عليه.

لحينه لم يتم الانتهاء من درس الاقتراح، كما أن معالي الوزير لم يوافق مجلس القضاء الأعلى على مشروع التشكيلات الذي وضعه، ويلفت بعض المطلعين إلى أن مجلس القضاء يتهيب موافقة رغبات الوزير ويرى أنها ستترك انعكاسات سلبية على العمل القضائي وعلى معنويات العديد من قضاة مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والعدالة.

أمام هذا الواقع المرير لا بأس إن ذكّرنا أصحاب المعالي بما قاله الشهيد كمال جنبلاط في إحدى مداخلاته في جلسة مجلس النواب المنعقدة بتاريخ 20 كانون الأول سنة 1949، وكان يومها المغفور له فخامة الرئيس شارل الحلو وزيراً للعدل وتقدم باستقالته من منصبه على أثر أزمة استقالة الرئيس الأول في القضاء الى جانب إضراب القضاة حينها، وكان سبب كل ذلك تدخل السياسيين في عمل القضاء.

كمال جنبلاط

وقد جاء في كلمته: “أيها السادة لقد ورد بين الأوراق الواردة نص استقالة معالي الأستاذ شارل حلو من وزارتي العدلية والأنباء وهذه الاستقالة قد درجت منذ ثلاثة أيام في الصحف وتحدث عنها القاصي والداني وهي تأتي مباشرة بعد أن تقدم الرئيس الأول إميل تيان باستقالته من أكبر مركزاً في القضاء اللبناني وهي تأتي أيضاً بعد أن أضرب القضاة ورفعوا إلى أكبر مقام في الحكومة مذكرة تدعو لاستقلال القضاء وتندد بما يجري فيه. لذلك نحن نطالب الحكومة بأن تبحث هذه القضية بجلاء أي أن تستحضر الحكومة إلى المجلس الأستاذ شارل بك الحلو حتى يشرح للرأي العام أسباب استقالته الحقيقية وهي غير التي نوه عنها في بيانه.

يجب عند كل أزمة من هذا النوع أن يطلع الرأي العام على خفايا الأمور وعلى مدى استغلال أصحاب النفوذ للقضاء اللبناني.

إن القضاء هو قدس الأقداس وإذا زال فلا وجود للدولة ومن الفوضى أن نمر باستقالة معالي الأستاذ شارل الحلو مورر الكرام، يجب علينا أن نبحثها ونمحصها وأن نقول إن تصريحات الحكومة في كل حين عن نزاهة القضاء قد لا تنطبق على الواقع بعد أن تكررت هذه البوادر. في أميركا أو فرنسا أو انكلترا أو غيرها من بلدان العالم المتحدين عندما يستقيل رئيس أول للاستئناف أو وزير للعدل أو يضرب القضاة تكون هذه بادرة أزمة خطيرة في الدولة يجب أن تبحث لأنها تنهار بموجبها وزارات ودول ولأن الدولة التي لا تقوم دعائمها على العدل تصير للهلاك المحتم. لهذا أسأل رئيس الوزارة بوصفه الرجل الذي يضطلع بأمور الدولة كافة أن يستحضر معالي الأستاذ شارل بك الحلو لهذه الندوة لجلسة خاصة حتى يشرح لنا أسباب استقالته الخفية.”

صحيح أن الأزمات بأنواعها كافة ليست جديدة على لبنان ولكن يوماً لم تكن سافرة كما حالنا اليوم مع بعض الطارئين على العمل السياسي والذين يرون أن العمل السياسي هو المصلحة الشخصية أولاً والفئوية ثانياً ولا ضرورة للمصلحة الوطنية.

من أفلاطون إلى الرواقيين والفلاسفة الطبيعيين ولوك وكانط، وحديثاً أنطوان سعادة والإمام السيد موسى الصدر وكمال جنبلاط، أرسوا مبدأ أساسي وهو “ضرورة سيطرة الأخلاق على العمل السياسي”.

  • أمين سر لجنة الإدارة والعدل في مجلس النواب

(الأنباء)