شبهت للموت جسماً (من شوقي بزيع الى انور سلمان)

تنشر “الأنباء” القصيدة التي رثى فيها الشاعر الكبير شوقي بزيع الأديب الراحل أنور سلمان في الذكرى السنوية الأولى لرحيله التي أقيمت في مسقط رأسه الرملية.

لا لستَ أنت الذي اختار الثرى نُزُلا/
كيما ينامُ، ولا أنتَ الذي رحلا
ولا يداكَ اللتان اختارتا مُدُناً/
من النعاس ذوتْ جدرانُها كلَلا
شُبِّهتَ للموتِ جسماً غير أنَّ منِ/
اعتلى صليبَ المنايا، أنتَ مُنتحَلا
يا مَنْ نزلْتَ على الذكرى كصاعقةٍ/
من العطورِ بها وردُ الرؤى رَفَلا
لو يعرفُ القبرُ شأن النازلين به/
لذابَ، مِمَّنْ ثوى في جوفِهِ، خَجَلا

***


ما جئتُ أرثيكَ، لكنّي أتيتُ لكي/
أختطَّ خلف كسوفِ الصوتِ لي سُبُلا
وأنتَ عينُ اسمكَ المستلُّ أحرُفَهُ/
من نور ما اقتبس المعنى وما حَمَلا
فما التماثيلُ إلا بعضُ ما نحتَتْ/
يدٌ لكَ، اجترحتْ من لحظةٍ أَزَلا
وما الحدائقُ إلا ما ضفرْتَ بهِ/
قصائداً لكَ ماستْ شمسُها جَذَلا
مَحَضْتَها حبَّتَيّ عينيكَ ذات ردىً/
مباغتٍ، فغدتْ أكمامُها مُقَلا
نطلُّ منها على الدنيا لتمنحَنا/
متى افتقدناكَ سرْباً من كؤوسٍ طِلا
وأنتَ رجْعُ مُنادى كلِّ كوكبةٍ/
من الفصولِ تناهى عصْفُها ثملا
فلا شتاءَ سوى ما كنتَ بذْرَتَهُ/
ولا ربيعَ سوى ما صُغْتَهُ جُمَلا

***
لا لستَ أنت الذي يمضي، فمثلك لا/
يقوى على الموتِ، أو يرتدُّ منخذِلا
وأنتَ صنوُ صهيلِ الروحِ إذ جَمَحَتْ/
بها الخيولُ، فلا إيناعَ منكَ خَلا
فأيَّةُ امرأةٍ لم ينتعظْ شَبَقاً/
تفَّاحها، حينما أتْرَعْتَهُ غَزَلا
وأيُّ حسناءَ لم تُلْحِقْ ضفائرها/
بالقمحِ يجْبي لها من صيفهِ خُصَلا
وأيُّ ثغرٍ تمادى في تلمُّظهِ/
لم تقتطف من براري شهْدهِ عسلا
وأيُّ حمَّالةٍ للصدر منهكةٍ/
بحملها، لم تَذُدْ عن توتها الكسلا
لكنّما الحبُّ مثل الشعر يتركنا/
رهْنَ السرابِ، إذا ما سائلٌ سألا
فما القصيدةُ إلا المستحيلُ وما/
نراهُ منها هو النقصانُ مكتملا
وما الأنوثةُ إلا شهوةً نذرتْ/
للموتِ نيرانها، لما استوى رَجُلا

***


وَهَبْتَ نفسك للرؤيا التي غشِيَتْ/
بالومضِ ما افتَضَّ لبَّ الغيب وانسدلا
لكنَّ قلبك لم يُسْلِمْ طرائدهُ/
للزخرف المحضِ مأخوذاً بما صقلا
بل راح يرنو لما جُرّعْتَ من غُصَصِ/
البلاد، وهي تربِّي للأسى عللا
كأنَّما عطشُ الأنهارِ ردَّك من/
جوف العصورِ فكنتَ النهرَ مُرْتَجَلا
فكلُّ ملحمةٍ غذَّتْ هنا لغةً/
وكلُّ عتمةِ غارٍ أنبتتْ رُسُلا
وكلُّ شبرِ ترابٍ ها هنا طَبَعَتْ/
أجسادُنا وهي تَدْمى فوقه قُبُلا
وحين لفَّتْ ذرى الباروك وحشتُها/
وحين أعوزتِ الأحياءَ قَوْلَةُ: لا
هوى المعلِّم ذوداً من ثرى جبل/ٍ
بدا لناظرِهِ لبنان مُخْتَزَلا
حتى إذا اتّحدا لم ندرِ أيُّهما/
هو الشهيد، وأيّاً أصبح الجبلا

***

يا سارق النار من أعْتى الصخور مُدىً/
ويا ربيب عُرى الماضي الذي أفَلا
هذي البلادُ التي غادرتَها ضَجِراً/
باتت لتلك التي همنا بها طَلَلا
كأنَّها ضدُّ معناها فلا أملٌ/
إلا ورُدَّ على الأعقابِ مُنْخَذلا
ما ثمَّ إلا نفاياتٌ مكدَّسةٌ/
على ضفاف وعودٍ أشبعتْ دَجَلا
فلا نشيدَ سوى الفوضى، ولا علم/
إلا النفاقُ، ولا عدلٌ رعى مُثُلا
ما ظلَّ من دولةِ الحلمِ القديمِ سوى/
مربَّعاتِ فسادٍ قُسِّمَتْ دولا
والدينُ أضحى غطاء الجانحينَ ومن/
أفتوا بتحريفِهِ حتى غدا مِلَلا
والتسمياتُ تمادتْ في رطانتها/
حتى بدا النعتُ عن معناه منفصلا
فكلُّ مرتكبِ يدعى هنا فطناً/
وكلُّ لصٍّ غدا في عُرْفنا بطلا
***
أيا رفيق الصبا المُغْضي على زمنٍ/
للرغْدِ مرَّ على أيّامنا خَضِلا
كَمْ جنَّةً للتَشَهِّي استودعتْ غدَنا/
آلاؤها، كم سحاباً فوقها هَطَلا
وكَمْ عَشيَّاتِ شعرٍ رُحت تمحضها/
سمعاً، لكي تستمطر الوحي الذي نَزَلا
تُراك ضقْتَ بنا ذرعاً، فعُدت إلى/
نبع الأغاني الذي وافيتَهُ عَجِلا
هل الحديدُ الذي أرداكَ كان يعي/
وقد رُكنْتَ إلى الإسفلت، ما فعلا؟
وهل لِمِثْلِكَ أن تُرديهِ حادثةٌ/
وهو الذي من عجين البرقِ قد جُبِلا؟
وهْو الذي شعرُهُ عنقاؤهُ، فإذا/
قضى احتراقاً تعالى في الذرى شُعَلا

(*) ألقيت في الذكرى السنوية الاولى لرحيل الشاعر أنور سلمان