الثمن السياسي الباهظ للتدخل الروسي شرق المتوسط

إدوارد ووكر (الحياة)

عاد التدخل العسكري الروسي في سورية على الكرملين بعائدات سياسية خارجية وداخلية بارزة. فأثبتت موسكو قدرتها على استخدام قوتها العسكرية بعيداً من جوارها القريب. وساهم التدخل الروسي في تعقيد الحملة العسكرية للتحالف الدولي ضد «داعش» في سورية، وفاقم إزعاج أوروبا حين إطلاقه موجات من اللاجئين. وجعل التدخل هذا روسيا لاعباً جيوسياسياً في الشرق الأوسط، وساهم في تعميق الخلاف بين تركيا وحلفائها في الناتو، وفي تعزيز شعبية بوتين في الداخل. لكن، وفي ما خلا إعادة التموضع الجيوسياسي التركي، المرجح أن تكون المكاسب الروسة موقتة. ونتائج الحرب السورية مدمرة، وروسيا اليوم هي، عملياً، راعية دولة ضعيفة ومضطربة وبعيدة من مصالحها الأوراسيّة.

وأسفرت الحرب عن مقتل أكثر من 400 ألف شخص، وتشريد 6.3 ملايين في الداخل، ولجوء 5 ملايين نسمة إلى البلدان المجاورة. وعمّ الخراب أجزاء كبيرة من حلب وحمص وحماة وأجزاء من دمشق، ومن المرجح أن تعاني الرقة من مصير مماثل في الأشهر المقبلة. وفقدت دمشق السيطرة على شطر راجح من شمال شرقي البلاد، حيث مركز الإنتاج الزراعي في سورية ومعظم حقول النفط والغاز في وادي الفرات.

وأفلح التدخل الروسي في بقاء سورية في فلك موسكو. ولكن سورية اليوم دولة هشة ومشرذمة وستحتاج إلى دعم عسكري واقتصادي عندما تنتهي الحرب. وهذا، ولسوء الحظ، لن يحصل في القريب العاجل، على رغم سعي روسيا أو دول أخرى إلى تسوية سياسية. وخطوط النفوذ والسيطرة الفاصلة بين فصائل المقاتلين المتباينة الألوان، مبهمة. لذا، يستبعد التوصل إلى وقف إطلاق نار شامل. واحتمال وقف إطلاق النار مع الجماعات «الجهادية» والمقربين منها، متعذر. ولا يزال موقف دمشق العسكري هشاً، على رغم مكاسبها على الأرض. فهي تجبه متاعب فعلية في التجنيد، ولا يلتزم عناصرها سلماً قيادياً ثابتاً، ولا يطيع الإيرانيون و«حزب الله» وغيرهم من المقاتلين أوامر الأسد. وعلى رغم ابرام تحالفات بين المتمردين في 2016، لا يزالوا منقسمين وتهيمن عليهم جماعات «جهادية» متطرفة. ولن تدعم القوى الخارجية- بما في ذلك أميركا وحلفائها الأوروبيين والعرب، وحتى تركيا- تسوية سياسية تقبلها دمشق وموسكو وطهران. وهذا يعني أن الأسلحة سوف تستمر بالتدفق إلى سورية في المستقبل المنظور.

وعلى رغم كل ما تقدم، يستبعد أن يقوم الكرملين بتغيير سياسته في سورية قبل الانتخابات الرئاسية الروسية في آذار (مارس) 2018. ولكن في هذه المرحلة، قد يبدأ بوتين بالتساؤل عما إذا كانت التكاليف الطويلة الأجل للعمليات العسكرية الروسية في سورية، تفوق فوائدها والمرتجى منها. وفاقم التدخل عسر التقارب مع الغرب، ومنح الأسد (أو خلفه) القدرة على عرقلة إمكان «التصالح» بين ترامب وبوتين من طريق الهجمات الكيميائية. كما جعل روسيا عدواً أساسياً للمقاتلين السنّة المتطرفين، وحمل كثير من المعتدلين السنّة إلى الاستنتاج بأنّ موسكو إلى جانب إيران وحلفائها الشيعة.

ويترتب على التدخل أخطار أخرى إذا مضى بوتين قدماً في سياسته هذه. وعلى سبيل المثل، قد تقرر واشنطن تحدي الجيش الروسي في سورية. وتنشر موسكو قوات كبيرة على طول حدودها الغربية الأوروبية، لكنها مكشوفة في سورية وشرق البحر المتوسط، وهذا ما سلطت الضربات الأميركية الأخيرة الضوء عليه. ونشرت روسيا منظومتي الدفاع الجوي «أس-300 « و «أس-400»، ولكن مثل هذه الأنظمة لا يسعه ان يحمي الجزء الأكبر من الأراضي التي تسيطر عليها دمشق وحلفائها من صواريخ كروز أو الجيل الخامس من طائرات الشبح الأميركية.

وأميركا قادرة على تهديد روسيا والرد عليها رداً رادعاً في سورية. وهذا يعني أن ترامب يمكنه نظرياً أن يحرج بوتين سياسياً من طريق توجيه ضربات أميركية على مواقع عسكرية سوريّة في الزمان والمكان الذي يختاره، حتى لو خاطر بقتل أو إصابة عسكريين أو مدنيين روس. وإذا عصفت بروسيا موجة من التطرف «الجهادي» أو الإرهاب في الداخل، قد يلقي الرأي العام الروسي لائمة هجمات إرهابية على التدخل في سورية. والدعم الشعبي للحرب في سورية متدنٍ. وإذا ارتفعت وتيرة العمليات الإرهابية، وبخاصة إذا قام بها عائدون من ساحات القتال في سورية أو العراق، تهافتت حجة الكرملين القائلة بأنه من الأفضل محاربة الإسلاميين في الخارج عوض الداخل. فتهبط مستويات تأييد التدخل في سورية، وربما في نهاية المطاف، تؤدي إلى هبوط نسبة تأييد بوتين نفسه.

وتواجه روسيا مشكلة «عدم تناسب المصالح» أو «مصالح غير متكافئة» في سورية. فالبلد بعيد نسبياً عنها. ولم تكن معدلات التجارة بين روسيا وسورية يوماً مرتفعة. وموسكو غيـــر قادرة على المساهمة في إعادة بناء الاقتصاد السوري، أمّــا المـرفق الروسي للتزود بالوقود في طرطوس فليس محورياً في ميزان العمليات الروسية في البحر المتوسط (والعمليات هذه أهميتها محدودة في ميزان المصالح الأمنية أو الاقتصادية الروسية). ولا يجمع تقارب تاريخي أو ثقافي بين السوريين والروس. والمصالح الاقتصادية والأمنية الأميركية والأوروبية والإيرانية والتركية في سورية أكبر من المصالح الروسية.

هذا التفاوت في المصالح قد يكون مصدر مشكلة خطيرة إذا ما تواصلت معاناة الاقتصاد الروسي، كما هو متوقع، في السنوات المقبلة. وشعبية بوتين كبيرة، وهو ما لا يمكن قوله عن الحكومة والنظام. فالروس ينظرون بعين الاشمئزاز الى النخبة الجشعة، والفساد الرسمي، والرأسمالية القائمة على المحسوبيات- وهي سمات النظام الحالي الذي يسلط زعيم المعارضة أليكسي نافالني الضوء على ثغراته. وقد يحمل هبوط مستويات المعيشة الروس على الطعن في تورط الكرملين في نزاع بعيد من روسيا. وتوجه نافالني في مقابلة مع صحيفة «الغارديان» إلى الروس قائلاً: «عظيم، بوتين وعد بإعادة بناء تدمر، ولكن لماذا لا تنظرون إلى حال الطرقات في مدينتكم؟».

وخلاصة القول إن مشكلة موسكو في سورية لا تختلف عن مشكلة واشنطن في أفغانستان والعراق، ولو كانت على نطاق أصغر. وعلى رغم زهاق آلاف الأرواح وصرف تريليونات الدولارات، ينتشر، الى اليوم، 8400 جندي أميركي في أفغانستان و7000 في العراق و1000 في سورية. وفي البلدان الثلاثة هذه، يرجح أن تزيد واشنطن أعداد قواتها في الأشهر المقبلة. ولكن الأميركيين لا يشعرون بأن النصر قريب. وبعد انتخابات آذار 2018، قد يخلص الكرملين إلى أن دخول حرب دائمة ومزمنة في الشرق الأوسط كان أسهل بكثير من التدخل فيها أو الخروج منها.

* أستاذ في جامعة كاليفورنيا، عن موقع «موسكو تايمز» الروسي