فرنسا “الجمهورية السادسة”: التأهيل الاوروبي والاصلاح الجذري

بشار العيسى (الأنباء)

 

على موعد مع التاريخ
فرنسا أكبر بلد مساحة في اوروبا الغربية وهي ثالثة بعد اوكرانيا وروسيا في كامل اوروبا 66 مليون مواطن خليط محلي وسكان المستعمرات بتعدد ثقافات واديان.
لفرنسا حضورها الكبير منذ العصور الوسيطة وظلَّا حتى سنة 1950 امبراطورية استعمارية كبيرة لها اراض ما وراء البحار فضلا مما كان لها في افريقيا. ومنظومة اللغة الفرنسية (الفرانكوفونية) واحدة من الاكثر انتشارا في العالم. لها مكانة مشرقة لدى السواح ورواد المغامرة والموضة والاستمتاع، بعاصمتها التي تكنى بالنور ومدنها الساحلية وبرجها وشعارات ثورتها: حرية، إخاء، مساواة

ورغم كونها سادس اكبر دولة من حيث الانفاق العسكري، وثالث أكبر مخزّن للأسلحة النووية. إلا انها بدأت تفقد بعضا من قوتها والكثير من رفاهيتها.
فلم تعد كما كانت بلدا يعيش اهله في رفاهية ورغم انها تملك ثاني اكبر سلك دبلوماسي في العالم إلا انها تتراجع الى الخلف في حجم العقود التجارية. ورغم ضخامة اقتصادها الا انها لا تقف على ساقي رابع قوة اقتصادية في العالم كما كان يقال عنها بل خامس وسادس مرتبة.
نظامها البرلماني شديد المركزية (خليط) يجعلها اسيرة عراقة تداخل التاريخين الامبراطوري والجمهوري، جعل منها دولة بيروقراطية عصية على التغيير والتطور. هشة في الاطراف منهارة تقريبا في سوق المنافسة الزراعية. وهي تحتفظ لسوء الحظ بأعلى معدلات البطالة في اوروبا
بعد عصور امبراطوريات وسيطة وحديثة ساد العصر النابليوني الذي توَّج ثورة اطلقت شبح الحرية في كامل اوروبا والعالم والى نابليون الاول “يعود القسم الاكبر من نظم وقوانين الادارة الفرنسية الحديثة وهي التي أعطت العالم في مجالات الفكر والفلسفة “الفنون والآداب أكاديميات متكاملة ورجالات الفنون والعلوم والآداب والموضة.
ربحت فرنسا الحرب الكونية الاولى بخسائر ودمار كبير لكن بمستعرات درّت عليها مكانة ومالا.. وبعد الاحتلال الالماني في الكونية الثانية أعيد تنظيم فرنسا مع ديغول بصيغة الجمهورية الخامسة التي اصبحت تعاني من شيخوخة واضحة تقتضي معها اصلاحات في العمق الاداري والاقتصادي والتنظيمي لتستطيع مواجهة قدرها الاوربي والوطني والتمكن من القيام بنهضة على مستويات افقية وعمودية بمعزل عن الايديولوجيات التي انهكتها بين اليمين واليسار وفي ظل نمو شعبوي كبير للفكر المتعصب العنصري بالاعتياش على فقر صحن المواطن الفرنسي واوهام ومخاوف الارهاب والغزو الاسلامي.
بشكل او بآخر يمكننا القول ان فرنسا تقف في ممر غرفة الانعاش وربما لا نجازف بالقول ان حظها الاخير يكمن في نجاح الرئيس الثامن للجمهورية الخامسة “ايمانويل ماكرون” في تنفيذ برنامجه الاصلاحي بحزم هيأ له بعضا من اسسه، سلفه فرانسوا هولاند بقسم من الاصلاحات التي لا تحظى بشعبية تسببت في جعله الرئيس الفرنسي الاقل شعبية.

فرنسا العجوز واستحقاق تجديد شبابها
مع الثورة الفرنسية ظهر مفهوم النظام القديم الموروث عن الحروب الصليبية وحل محله نظام جديد حل فيه نبلاء الثوب محل نبلاء السيف اي نبلاء القلم والفكر والقانون هيأوا لفرنسا ثورتها والانتقال بها من ادارة الشيوخ الى ادارة جديد اخذ واجهته جيل من الشباب في القيادة من فئة عمرية بين 22 و.35 ليس الثوار وحسب بل الملك وزوجته ماري أنطوانيت كانوا ينتمون الى هذه الفئة العمرية التي ورث عرشها الشاب نابليون الاول وانطلق بها يجوب الشرق والغرب حتى روسيا يثير الحروب والافكار الجديدة والتجديد في النظم والعلوم والمفاهيم  رغم المآسي التي رافقت سنواته.
مع ايمانويل ماكرون تقف فرنسا على مفترق طرق للحظ في النجاح اكثر مما للفشل لقد جعل الانتشار الكبير للأفكار الشعبوية واليمين المتطرف واليسار الاحمق من المواطن الفرنسي ان يستيقظ من غفوة تاريخية.

فرنسا ماكرون خطة طوارئ
تقول القوانين الماركسية (التي لم تنفذ في مراعيها) ان التناقض بين وسائل الانتاج وعلاقات الانتاج تفضي الى الصراع والثورة، كما ان الديالكتيك يزيل الابهام عن النقطة التي تطفح الكاس بالتراكم الكمي الذي يتحول الى حالة نوعية، فضلا عن قانون الفلسفة الشهير وحدة وصراع الاضداد.
حين يبلغ الافتراق بين رأس المال وقوة العمل حدا يزداد معه التناقض ويتعمم البؤس تنتشر الافكار والمشاعر المتعصبة في الشوارع الموازية للأفكار الاصلاحية والتجديد والثورية والحال هذه في زمن العولمة وفي بلد كفرنسا كما هو الحال فنحن أمام احتمالين:
ـ إما ان يتحرك المجتمع من خلال نخبه الفكرية والثقافية والسياسية لرأب هذا الافتراق ضمن مفهوم الاصلاح والتجديد، بمعزل عن الايديولوجيات.
فالإصلاح يستهدف تحقيق الامان الاجتماعي بإعادة الخلاف والتوتر الى حاضنته الاجتماعية ونزعه من الشارع، تحت عناوين المصلحة العامة، والنظم القانونية التي تضبط آليات الصراع والتوافق الوطني بعيدا عن الدوغما والديماغوجيا.
ـ او انتفاضات قوى العمل بالجنوح الى الفوضى والانتقام بفعل العجز تسود فيه الفوضى والتهلكة والمراوحة اللفظية بأيديولوجيات اليمين واليسار كحلول لفظية لمشاكل واقعية مع العولمة بلغ التناقض بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج جعلت من الرأسمال متحررا في اسواقه ومن النظم والقوانين التي تحد من مرابحه تجعله ينشر العطالة عن العمل بحثا عن ايدي عاملة رخيصة.
فرنسا واحدة من هذه الدول التي تقف امام هذا الطوفان الذي جعل ثلث الشعب الفرنسي يصوت لليمين العنصر وربعه لليسار المتوتر فالغليانات البائسة والمهيجة بشعارات عنصرية ضد الغرباء ضد ما وراء الحدود هو خلخلة للبنية الوطنية و هو انتحار جماعي يسري كالسّمّ في الشرايين المتوسعة.
سبقت بلدان أخرى فرنسا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي روسيا يلتسين وغورباتشوف وربما بوتين ايضا وحاليا تركيا اردوغان، وقبله ايران الشاه، وربما حاليا ايران خامنئي وسودان البشير، وفنزويلا ولا نتحدث عن سوريا المهشمة اليوم .
في دولة مثل فرنسا حيث تتحكم فقط صناديق الاقتراع ويستحيل اللجوء الى عمليات بوتين واردوغان وخامنئي وشافيز الجراحية القمعية يحتفظ العقل والشباب لأنفسهم بالدور الكبير للجم الفوضى المدمرة والفيضانات المفاجئة فالسّيل الجارف لا بد من ان يحفر سريره في التربة السليمة (التضاريس الملائمة) ويتحول الى نهر ينشر العمران والازدهار يناقض به افكار التوتر والبؤس والصراع الغابي وهذا هو الامل بجيل ماكرون وشخصيا اراهن في انه سيجعل من عهده نقطة تحول كبيرة ليس في فرنسا وحدها بل في سائر اوروبا فالشاب الاربعيني على موعد مع القدر وهزيمة الاحزاب التقليدية يمينا ويساراً. اعطت فرصة تاريخيه للنخب السياسية ان تحضر بقوة الى جانب تنفيذ برنامجه لإصلاح فرنسا الفضاء الوطني والاتحاد الاوربي الفضاء القاري معا.

خاتمة
العمل يقدمه راس المال وليس الاضرابات والخطابات والمخاوف لان العمل استثمار مطمئن في المكان الصحيح للم العاطلين عن الشوارع والساحات وتنظيمات الفوضى والمخدرات والاتكالية والاعاشة.
من حق رأس المال أن يحقق مرابح ومن حق العاملين تحقيق استقرار نفسي ومستقبلي وضمانات اجتماعية.
مع التطور الهائل لقنوات الانتاج ووسائل الانتاج وسرعة التحولات المادية والخدمية وانتقالات السوق صار لزاما على دولة عصرية ان تتجهز لملاقاة هذه التحولات (ب):
ـ القضاء على التهميش في الضواحي وتحقيق تكافؤ فرص في التعلم واكتساب الخبرات الحديثة التي تسود سوق العمل.
ـ التحضر افقيا وعموديا لتهيئة الأجيال الشابة بدءا من المدرسة الابتدائية ليستطيع استيعاب تقنيات القرن الواحد والعشرين لسوق عمل القرن الواحد والثاني والعشرين.
ـ الحماية الوطنية لا تكون بالزّجر واقامة الجدران والمعازل بل بخلق فرص المنافسة الحرة والمثمرة والامن الانتاجي والمعاشي.
ـ أخيرا واولا نظام ضريبي عقلاني وحازم فأساس استقرار وتشكل اي دولة وحمايتها من الفساد والدمار هو النظام الضريبي العادل والمنصف والعقلاني.

(الأنباء)