الانتحار.. حرية اللاممكن في سجن الاقدار / بقلم د . رامي عطاالله

بعيدا عن جلبة العاطفة، وعن ضوضاء المشاعر التي تختلج حنايانا لتعبر عن ابعاد انسانيتنا في زمن الانفصال الحقيقي ما بين روحانية النفس وعقلانية المنطق تبرز حقيقة الوحدة حيث اللاانتماء والغربة، حيث العجز والوهن، حيث نستفيق على ما لا ندري وان كان نبض القلب يدري.
على اسوار الحقيقة نقف، ومن على اعتابها نرصد مكنونات ذواتنا، وفي غالب الاحيان ان خطونا وسرنا في سبيل المعرفة والانتقال من سكينة الوعي الى ايقاظ الوعي نقع في غوغائية الواقع، حيث تختلط المعرفة بالجهل وان كانت تسود الحياة بعض الضوابط . فالحياة الاجتماعية تتخطى في مدلولاتها الرؤية السطحية للامور، وعمق المفهوم يتأتى من كيفية تلقف الفرد لمعاني الحياة، دون ان ننسى الاثر الكبير لتآلف المكون الاجتماعي الذي يعبر بحق عن انماط ونسق العلاقات القائمة وتأثيراتها الايجابية والسلبية فى كل فرد على حدى. واذا ما سلمنا وتبنينا مقولة “الحرية” وانساقها المجتمعية على انها اصبحت من الثوابت، الااننا يجب ان نعي وندرك التفاعل في العلاقة الجدلية ما بين مفهوم الحرية واساليب البحث عن قيمه من جهة ووسائل التنفيذ من جهة اخرى. وفي هذا الاطار لا بد من التمييز بين اربعة مفاهيم للحرية: حرية الاختيار القائمة على الارادة المطلقة، ثم الحرية الاخلاقية او حرية الاستغلال الذاتي القائم على التدبير والروية، ثم حرية الحكيم او حرية الكمال المتحررة من كل رغبة او كراهية، واخيرا حرية العملية السيكولوجية القائمة على الفعل الروحي التلقائي الذي يعبر عن شخصيتنا.
وهذا ما يعني بان الحرية الشخصية المعترف بها اجتماعيا لا بد ان تقوم على حد ادنى من عقلنة الرغبات كي تكون مقبولة، مع العلم بأن الحرية لا يمكن معرفتها بالبرهان عليها، وانما بمجرد التجربة اننا نملكها. لذا لا بد من ادراك الصيغ الاجدى في اقتباس اساليب التعامل مع الحرية، ومواءمة التطبيق مع فكرة الشعور بالاستقلال كي تكون مجريات الحرية ودوافع المناداة بها غير مشوبة بعيوب تدمي القلوب وتسطر نهايات في انفاق الظلام ورحلات اللاعودة.
وهنا لا بد ان نعي سمات الوعي وتقاطعه مع مضامين الإدراك والرشد ،وإلا نكون قد اينعنا في عقولنا ثقافة المجهول وابصرنا نورا زائفا من شعاع دمامة الخلق وكآبة النفس. فلجسدنا حق علينا وملكيته ليست كباقي الملكيات، انها ليست مطلقة لكنها في الوقت عينه لها ميزات تجعلنا نفكر مليا بحق التصرف النابع من ايماننا بالحرية الموروثة لا على أساس القناعات إنما بالتعود.
فالانتحار من وجهة نظر البعض ما هو الا هروب ينم عن جبن من يقترفه وذلك خشية المواجهة والانصراف نحو ديمومة الراحة، اما البعض الاخر فيرى في هذا الفعل ذروة قوة إلانا لدى من يتحدى الصعاب باختيار اقسى الخيارات والنابعة من فعل التجانس بين لا قدسية الجسد وعدم إنكار الذات .
هذه الاشكالية ليست وليدة الصدفة ولا يمكن ان تكون غبارًا يتسلل الى العقل اثناء عاصفة الفكر، لا بل انها سبب ونتيجة في آن لعوامل الانفصال الحقيقي والذي يتأتى من انساق التفاعل الاجتماعي السلبي وذلك على النحو التالي:
انتشار العلم دون الاعتماد على ركائز الثقافة.
تلقف ثقافة المستطاع لتلبية حاجات آنية.
التخلي عن قيم العائلة والابتعاد عن الجذور.
التحول من البعد الإنساني للقيمة الذاتية الى البعد المادي اي ما يمكن ان نسميه القيمة الرقمية للفرد. الابتعاد عن مقتضيات التقوى والإيمان نتيجة مغالطات تكمن في قشور العقائد وليس في مضامينها.
غياب العمل المؤسساتي في بنية النظام الاجتماعي وشخصنة المقدرات.
المفاضلة بين الخيارات السيئة وتبني احداها وذلك لكون ان هذا هو المتاح.
غياب الرقابة واهمال المسؤولية. الانحلال الاخلاقي.
الانفتاح المبني على أساس استيراد الثقافات لا على أساس الملائمة. الابحار في التطور التكنولوجي دون مراعاة دواعي الوعي والاستخدام الأمثل لهذه التقنيات.
واللائحة تطول، ولا يمكننا ان نغض النظر عن الدافع الشخصي والطبع الذي يتحلى به من يقدم على ازهاق روحه، الا اننا لا بد من ان نقف على حقيقة هذا الخيار، ونبني دعائم المجتمع على أساس ترشيد الخطى لا على أساس الاقتصاص. من هنا فلا يمكننا ان نغفل الإحاطة بالاسباب والنتائج، ولا بد من استنباط صور تفاعل إيجابي ديني وزمني لا تزهق الروح الحية ولا تلبي مقاصد فعل الانتحار.

(الأنباء)