غيابك المُضني

فاطمة علوه

الخبز كان آخر ما تحدثت عنه في ذلك اليوم. ربما لأنك كنت خبز حياتنا. غادرت المختارة مارّاًّ بسيدة تخبز على الصاج أعطتك رغيفاً وقالت: “سأحضّر لك الطلامي”. فأجبت “إذا عدنا نأكلها، وإن لم نعد يأكلها غيرنا”. الخبز ـ الحياة، والموت في عبارة واحدة، وفي يوم واحد.

تحققت النبوءة وعدت شهيداً. من يعرفك جيداً يعلم أنك كنت تعرف أنّه يومك الأخير. لذلك أردته بسيطاً كالريف، كوجه تلك السيّدة وهي تقول لك “عالبركة” لتجيبها “حلّت البركة”.

يومها حلّت البركة والفاجعة في آن. فاجعة لنا نحن الذين مشينا وراءك بعد أن تركنا كل شيء لنحمل معك راية التغيير.. لنصنع وطناً على قياسنا، يشبهنا نحن العمّال والفلاحون والفقراء.. وطناً علمانياً يتساوى فيه الجميع.. كيف لا نمشي وراءك وأنت المعلّم والقائد والمنقذ والأب. ولكن بعد ذلك اليوم سألنا أنفسنا: كيف نبني وأنت البنّاء؟

كنت أعرف كل أخبارك، تابعتها بتفاصيلها الكبيرة والصغيرة وحتى المملّة التي لا تعني أحداً، ولكنّها كانت تعني لي. كانت تكمل الصورة الكبيرة التي في بالي عنك. كنت أسير قريبة منك في التظاهرات، ألاحقك وأنت تعتلي المنابر بقامتك البهيّة وصوتك الهادئ. كنت أمشي مسافات طويلة لأراك وأسمعك حتى تحت القصف والقنابل المنهمرة.

مرة في أحد أيام العام 1976، قصدت اليونيسكو لأحضر مهرجاناً ستتحدث فيه. وصلت ولم أجد أحداً. خرجت مسرعة مع بدء القصف فأخبرني شابان في الخارج أنّ المهرجان انتقل إلى الكونكورد. كان في جيبي ثلاثة أرباع الليرة. بالنصف ذهبت إلى الحمرا وفي طريق العودة مشيت إلى البربير ثم استقلّيت سيارة أجرة بالربع الباقي إلى البيت.

كان يكفيني أن أسمع صوتك الهادئ لأعرف أن كل شيء على ما يرام، وأن أرى عينيك.. ولكنّ ألم يراهما القاتل؟ ألم يعرف أنّ رصاصاته لم تقتلك أنت فقط بل قتلت أحلامنا وأمنياتنا وأحنت ظهورنا؟ هل يعرف أننا حتى اللحظة لم تستقم قاماتنا وأنت القامة التي لا تتكرر؟

سمّوك المعلّم، وأنت لم تعلّمنا فقط بناء الأوطان، بل علّمتنا كيف نحب، ولماذا نكره.

في ذلك اليوم، ومن شرفتي رأيت بيروت تحترق: قذائف، دخان دواليب، غيوم سوداء، أناس يركضون، أبواق سيارات. تحوّل النهار إلى ليل. شعرت أن أمراً جللاً حصل، قبل أن أعرف ويا ليتني لم أعش لأعرف ما عرفته يومها.

يومها انتهى العالم.

اعذرني، لم أستطع وداعك، لم أستطع أن أمشي وراء نعشك. أنا التي مشيت خلفك في كل المناسبات. لبنان مشى وراءك وأنا أقعدني الخبر طريحة الفراش، حامل بابنتي الأولى، حامل بحياة جديدة إلى عالم انتهى بالنسبة لي.

إنها المرة الأولى التي أكلّمك فيها على الورق، أنت الذي تعيش فيّ، وفي الهواء الذي أتنشّقه. ولكنّ ما كتبته الآن لا يسدّ شيئاً من شعوري بالفقد منذ ذلك اليوم من آذار.