في “الأنباء”: هل يعيد تعديل الدستور التركي مجد بني عثمان؟

فاز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بفارق طفيف في الاستفتاء على تعزيز صلاحياته، في حين أن الاقتراع بـ “لا”  جاء مرتفعاً في جميع المدن الرئيسية تقريبا، ما فرز البلاد بين كتلتين، كتلة المؤيدين للتعديلات الدستورية، وهم من أنصار حزب العدالة والتنمية والتيارات الإسلامية التي تدور في فلك الاخوان المسلمين، وبينهم عدد من الاقتصاديين الجدد المتمركزين في الأرياف والمدن الصاعدة، وكتلة الرافضين للتعديلات وهم خليط من المواطنين والاقتصاديين والمثقفين العلمانيين، وبعض القوميين الأكراد، ما يضع تركيا في حالة انقسام سياسي حاد لم تشهدها منذ أمد طويل.يسعى الرئيس رجب طيب أردوغان إلى تحويل نظام الحكم في تركيا من نظام برلماني كما هو حاليا، إلى نظام رئاسي تنفيذي يشبه النظام الرئاسي المعمول به في فرنسا والولايات المتحدة، وعدد من الدول الأوروبية، فعشية التصويت قال أردوغان أمام حشد من أنصاره إن التصويت لصالح التعديلات “يجعل تركيا أقوى”، في حين يرى معارضو أردوغان أن التعديلات المقترحة من شأنها منح صلاحيات واسعة لرئيس البلاد بحيث يجمع بين يديه سلطات كبيرة يتحول معها نظام الحكم إلى حكم رجل واحد بدون أن تكون هناك ضوابط قانونية لمساءلة الرئيس، ما يجعل البلاد في قبضة استبداد الرئاسة.

التعديلات المقترحة هي أكبر عملية تغيير في نظام الحكم في تركيا، منذ تأسيس الجمهورية العلمانية البرلمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك. فينص التغيير الدستوري المقترح على 18 مادة تتعلق معظمها بمهام الرئيس المنتخب والذي يتمتع بصلاحيات تنفيذية، وأكثر المواد جدلا، المادة الثامنة المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية التركية وفقا للدستور الجديد والتي تتلخص فيما يلي:

“الرئيس هو رأس الدولة، وصاحب السلطة التنفيذية في البلاد، ويمثّل بصفته رئيسا للجمهورية وحدة الشعب التركي والجمهورية. ويتولى تعيين نوّابه والوزراء وإنهاء مهامهم عند الضرورة. حيث تم إلغاء منصب رئيس الحكومة وجعل الإجراءات الحكومية تحت سلطة رئيس الجمهورية.

الذي يتولى أيضاً مهمة تعيين إداري الدولة وإنهاء مهامهم وحجب الثقة عنهم وهو من يقدّم الرؤى للبرلمان فيما يخص السياسة الداخلية والخارجية، وهو صاحب القرار باستخدام القوات المسلحة التركية عند الضرورة، الرئيس هو من يقترح التعديلات الدستورية على الشعب، ولا يحق له من خلال المراسيم إجراء التعديلات على الجزء الثاني من الدستور المتعلق بالحقوق العامة، وحقوق الأفراد، وكذلك الجزء الرابع من الدستور المتعلق بالحقوق السياسية”.

كما تنص التعديلات المقترحة على بقاء الرئيس في منصبه لمدة ولايتين كحد أقصى، كل ولاية مدتها خمس سنوات، كما ألغت التعديلات منصب رئيس الحكومة وأعطت رئيس الجمهورية صلاحية تشكيل الحكومة وتعيين الوزراء.

وكان الأتراك قد صوتوا على التعديلات الدستورية لتغيّر نظام الحكم في البلاد، في ظل حالة الطوارئ التي فرضتها الحكومة في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في منتصف شهر تموز الماضي، حيث اتخذت الحكومة إجراءات أمنية صارمة قادت إلى اعتقال عشرات الآلاف من الأشخاص.

يبلغ عدد الناخبين الأتراك الذين يحق لهم الإدلاء بأصواتهم في 167140 مركز اقتراع في كل أنحاء تركيا نحو 55 مليون شخص. وأشارت تقديرات مراكز الإحصاء إلى أن نسبة المشاركة في عملية التصويت في الاستفتاء تجاوزت 80 في المائة.

نتائج الاستفتاء الذي أراده أردوغان مظفراً، جاء ضعيفاً ولم يمنع الرئيس التركي من تعزيز صلاحياته، ولو بنسبة 51.37٪ من أصوات المقترعين لكنه كان مخيباً لأمال حزب العدالة والتنمية ورئيسه، فنسبة 51,37% تبدو نتيجة ضعيفة، لكنها مرضية حيث لم يفلح حزب العدالة والتنمية وحلفائهم إيصال ما نسبته ثلثي المقاعد النيابية في الانتخابات الأخيرة 2015  ما دفع أردوغان الى إجراء الاستفتاء، بدلا من إقرار التعديل في البرلمان.

الصدمة التي يتوقف عندها المراقبون، تتمثل في نتائج الاستفتاء، حيث للمرة الأولى جاء صوت إسطنبول وازمير وأنقرة ضد أردوغان، ما قد يشكل ضربة قاسية له ولحزب العدالة والتنمية، فإسطنبول أعطت (51.4٪ لصالح لا)، وهي المدينة التي صعد منها أردوغان حيث كان رئيس بلديتها، والعاصمة أنقرة أعطت (51.2٪ لصالح لا) وهي كما إسطنبول من المعاقل الأساسية لحزب العدالة والتنمية، مثلها مثل المدن الأكثر اكتظاظا بالسكان كدنيزلي، وأضنة، وأنطاليا ومرسين، التي كان التصويت لصالح “لا”، المناطق الساحلية بالقرب من منطقة بحر إيجة في جنوب شرق تركيا، حيث الغالبية الكردية، صوتوا بكثافة ضد صلاحيات الرئيس، ففي ديار بكر، “عاصمة” الأكراد الأتراك، الذين يشكلون خمس السكان، حصلت “لا” على 67.6٪ من الأصوات.

مدينة بورصة قالت نعم بنسبة (53.2%) وكذلك هضبة الأناضول، المحافظة التقليدية لحزب العدالة والتنمية، الشتات التركي في جميع أنحاء أوروبا كان له التأثير الكبير في معادلة الـ “نعم”، حيث كانت نتائج التصويت مؤيدة للتعديلات الدستورية، خاصة في فرنسا حيث (63٪) أي ما يقرب 000 140 مقترع قال “نعم”. كذلك في ألمانيا (63٪)، النمسا (73٪)، بلجيكا (75٪) وهولندا (70.9٪).

يؤكد الرئيس أردوغان أمام أنصاره “أن التعديلات الدستورية ستجلب الاستقرار لتركيا، في وقت تفشت فيها الاضطرابات في ظل التمرد الذي يقوده حزب العمال الكردستاني المحظور، وتنفيذ عمليات إرهابية من طرف تنظيم الدولة الإسلامية وانتشار التشدد واستمرار النزاع في سوريا المجاورة الذي قاد إلى تدفق نحو ثلاثة ملايين لاجئ من هذا البلد.

المراقبون يتوجسون من الانقسام السياسي الذي خلفه الاستفتاء، والذي قد يضع تركيا على حافة الاضطرابات الداخلية، بعد عقود من الاستقرار حققها النظام البرلماني، وموقع تركيا الجغرافي بين ضفتي أوروبا وعلى حدود روسيا وإيران وهي العضو في حلف الشمال الأطلسي.

لكن المراقبين يعتقدون أن التحولات الدولية في السياسة الأميركية بعد الحرب على العراق 2003، وما نتج عنها من انفلاش إيراني في العراق وصعود الحديث عن هلال شيعي يعيد مجد الإمبراطورية الفارسية، ويعزل تركيا عن مداها الإسلامي العربي والحيوي التاريخي في آسيا الوسطى، مقابل رفض أوروبي يعيق دخول تركيا الى منظومتها الاقتصادية، وفي ظل نمو اقتصادي تركي تصاعدي، يستدعي تحول تركيا الى دولة محورية في المنطقة، حيث تغفوا على مجد عثماني غني وارتباط إسلامي متين، يستدعي منها مركزية صلبة في آلية صناعة القرار، بعيدا عن هشاشة التركيبة الحكومية الخاضعة لتوازنات الداخل المتغير ولسلطة الجنرالات التي تتحكم بها سياسات الحلف الأطلسي ومصالح الدول الغربية.

ولعل زيارة الرئيس أردوغان وأعضاء حزبه الحاكم صباح الإعلان عن نتائج الاستفتاء أضرحة كل من محمد الفاتح أحد أكبر قادة الدولة العثمانية ونجم الدين أربكان عراب الإسلام السياسي في تركيا وعدنان مندريس رئيس الوزراء التركي الذي انقلب عليه الجيش وأعدمه بتهمة قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية وضريح الصحابي أبي أيوب الأنصاري، والمسجد الذي يحاذيه، وهو أول مسجد بناه العثمانيون في إسطنبول بعد فتح القسطنطينية. تبعث برسالة واضحة لدول الإقليم، وتلخص التوجهات المستقبلية للبلاد، حيث يمسك الرئيس رجب طيب أردوغان بزمام السلطة والسياسة والدين ويخطط لإعادة كتابة تاريخ تركيا من جديد.

(*) فوزي ابو ذياب- “الانباء”