لا نريدها خطبة وداع / بقلم عاصم يوسف حسن

حين أنهى الزعيم وليد بك جنبلاط كلمته أمام الحشود المؤمنةِ والحاشدة في المختارة وفي ظل مسجد داعيةِ العروبةِ والاسلامِ الأمير شكيب ارسلان بمناسبة مرور اربعين عاماً على غياب المعلم الشهيد كمال جنبلاط مغدوراً بيد الحقد الشعبوي في السادس عشر من آذار 1977. 

ردّني التاريخ الى اربعة عشر قرناً انطوت حين كان القادة الفاتحون العرب يخاطبون الجند المؤمن بالرسالةِ ايماناً برسالة الاسلام العظيم  يسيرون امامهم وفي خَلَدهم أنهم لن يعودوا إلا بالنصر أو الشهادة. 

وإذ افتتح خطابه  بثلاث كلمات أظلت بمحتواها معظم ما اراد  

“أدفنوا موتاكم وانهضوا” شدّني هذا التعبير عشرين قرناً من الزمن يوم نهض عظيم الإنسانية الأول السيد المسيح عليه أفضل السلام مخاطباً المؤمنين برسالته قائلاً : أحمل صليبك واتبعني.. 

اتبعني الى الفداء والتضحية ومنتهى الجرأة مواجهاً قوى الكفر والظلم. 

وكأنما اراد وليد بك من هذا الكلام الوجيز في خطابه البليغ الكثير الكثير وهو يحمل في كل تعبير استنهاضاً لمناصريه وربما لسواهم.. كي تستمر القافلة.. وهي تودع شهيداً ورفيقاً وصديقاً وتشد أزر جريح.. وتنير السبيل امام جيلٍ شابٍ شجاعٍ مؤمنٍ، ربما بعض ذنبه أنه لم يشهد حقبة المعلم  الشهيد وربما لم يرَ مسيرة الزعيم ” ابي تيمور” من بدايتها… يوم حمل كما قال في خطابه على منكبيه المسؤولية الوطنية … وقاد سفينة تعبثُ بها الامواج العاتية وسافيات الريح،  واستطاع بين ليلة وضحاها أن يتحول من مشروع وريثٍ للمعلم الى وريث التزم بوجوده في المختارة… يحمل الامانة والعبء. 

في خطابه الاعمق والأعمّ على اختصاره شاء أن ينقل القيادة التي امسك بمسؤوليتها يوم اغتيال المعلم الشهيد على غير توقع.. اراد أن ينقل المسؤولية الى وريث هذه الزعامة الوطنية الفذة والخطيرة الى الاستاذ  

” تيمور” عبر جسر ناقل هادئ.. شبه معبدٍ ربما كي لا يتكرر مشهد السادس عشر من اذار عام 1977. وأن يجيز لنفسه استراحةً بعد اربعين عاماً من الجهد والسهر والانتصار والانكفاء.. والتفاؤل والحزن… لقد حمل الزعيم وليد جنبلاط أعباء الوطن مع بعض رصفائه من صفوة زعماء لبنان. لقد آن له أن يستريح… ولكن لا نريد له أن يتقاعد بل لا بد أن يظل مشعل هداية لمريديه… على الارض. استمدّها من فكر المعلم وفلسفته وقِيَمِهِ التي ستظل منائر ساطعة  امام اجيال قادمة لم يتسنَ لها  ان تستوعب شيئاً منها. 

“ادفنوا موتاكم وانهضوا” 

كرّرها واكد عليها اراد ان يشد من ثقة الاجيال الآتية… ” أنهضوا تحدوا الموت بالسير والاستعداد… للتقدم، للعدالة، للأفضل، لمواجهة العاديات ضد الوطن . 

يد على الزناد ويد تحمل معول البناء واراد ان يؤكد على قراءة المعلم  الشهيد الذي شهر كل فضائله وقِيمه العليا امام الجماهير سيفاً  سياسياً  مرهوباً . وحين اشار الى ثوار 1958… الى الذين رفعوا السلاح تأكيداً على حرية الوطن وعروبته ضد الانحراف والتبعيةعادت بي الذاكرة  هنا ايضاً الى الحادي عشر من ايار لعام 1958… حين اعلن المعلم الشهيد الثورة في الشوف من بتلون معتمداً على شبابها  وقد خرجوا من السريّة الى العلن شكلوا نواة الثورة في القيادة التقدمية في بتلون.  

(ماذا اراد وليد جنبلاط من ذلك) 

لم يبق من ثوار ذلك الزمن  الا قلة وجدت في كلمة الزعيم وليد.. بعض العزاء وربما لتذكر هذه الجملة جيلاً قادماً بما قام به اباؤهم أو اجدادهم. 

ثوار 1958 جاؤوا برغم تقدم سنهم فاصغرهم سناً قد تخطى الثمانين، منهم من تجاوز التسعين ولكنّ اقدامهم استجابت لعمق ايمانهم ولو لساعاتٍ استعادوا عبرها ذكرى معلم الاجيال الشهيد كمال جنبلاط الذي دخل في ضمائرهم وجوارحهم ودخل قراهم من اوسع واعلى ابوابها وظلوا اوفياء لمن حمل العبء والرسالة بعده. 

اراد “ابو تيمور” ان يؤكد ان ثورة 58 مازالت كامنة في صدور الابناء والحفدة. ولوح  بالكوفية المرقطة التي لم تعد شعار المقاتل فقط ولكنها أضحت شعار التغيير والتجديد والتعبير عن احلام الشعب وشوقه الى ان يصل فسحة الامل. كوفية ديموقراطية وكوفية اصلاح وكوفية مقاومة العدو الصهيوني… وكوفية فلسطين المحتلة كوفية العروبة الحق وكانت اول من اعتمدها لثورة 58 المعلم الشهيد … 

لذا لا نريد ان تكون هذه الوقفة وقفة وداع نريد لك ايها الزعيم ان تبقى ضامناً وحدة الوطن مع رصفائك الحاملين على اكتافهم قضايا الوطن نفسه عروبة وناصرية وعدالةً اجتماعية ومقاومة المتربص على حدودنا الجنوبية  فوجودك كفيل بشحذ العزم وتصليب الارادة  وتعميق التماسك الاجتماعي… 

واذا كان قد سلم الراية والكوفية للأستاذ تيمور فلانه اراد  ان يدفعه الى قدّرٍ كتبه الله على هذه السلالة الجنبلاطية وقد ارسى المعلم شأنها وأظلَّ بها الوطن وامسك الوليد بقيادة سفينتها. 

اننا نلتقي مع الزعيم الوليد كما التقينا مع الشهيد على خط العروبة والوحدة والتقدم والعدالة الاجتماعية. 

وفي ذلك الاحتشاد الهائل الرائع الكبير في المختارة سيطرت على ذاكرتي مناسبة مرور 100 عام على ولادة كمال جنبلاط . 

وقد تجلى ارتفاع “ابو تيمور” عن كل حقد او ضغينة وهو يشهد هادئاً- الوطن  المحتشد بكل اطيافه، لم يغمز من قناة احد ولم يفرغ حزنه وغضبه طيلة اربعين عاماً ولم يشأ ان ينكأ الجراح رفع الحقد جانباً وازاح التشفّي. وإخالني (انا كاتب هذا التعليق) اشعر ان طيف الامير شكيب ارسلان وجمال عبد الناصر وسلطان باشا الاطرش كان طاغياً على عميق ايمان الزعيم وليد جنبلاط في ذلك الموقف الكبير.

(الأنباء)