نفي الجمهورية الثالثة

سمير عطاالله (النهار)

على بعد ساعة من ساحة النجمة، ونصف ساعة من “قعقور” الحدود اللبنانية، تدور في دمشق معارك في الاجواء والانفاق، وفي الاحياء والحارات، لا يفهم أحد منا غموضها العسكري أو السياسي أو الاستراتيجي. فقد كانت العاصمة السورية شبه منئي بها، فيما كانت المدن والبلدات الأخرى في طاحونة القتال والتدمير والتهجير، من حمص إلى حلب. وبعدما بدا أن الجبهات قد هدأت في انتظار المواجهة مع دولة الخلافة في الرقة، تفجّر الوضع في دمشق على نحو مثير للجميع: ليس فقط للعالم الخارجي المراقب بأنفاس لاهثة لسلسلة الزلازل السورية، بل حتى للمعنيين المباشرين: النظام وروسيا وايران، وسائر القوى المشاركة.
على أن الفوارق كثيرة بين قتال في حلب أو في القامشلي، أو في حماه، وقتال في العباسيين، وكلها مصيري. ليس فقط لسوريا، وإنما للشرق الأوسط، بما فيه ايران، ولأوروبا بما فيها تركيا، وللدول الكبرى، وخصوصاً روسيا الاتحادية والولايات المتحدة.
بينما تدور هذه المواجهة الكبرى على بعد ساعة من ساحة النجمة، يدور في بيروت صراع سوريالي عبثي لا يصدق، حول قانون الانتخاب. في دولة تُؤجَلُ فيها انتخابات الرئاسة والبرلمان وتشكيل الحكومات إلى أن يقوم الوطن برحلة “بيكنك” الى الدوحة، من أعمال قطر، تشتد الحدة على قانون للانتخاب، فيما تنوء دمشق تحت خطر قد يدفع بعض أهلها نحو لبنان، مرة أخرى.
ما من سيناريو محتمل، أو متخيل، يمكن أن يكون لمصلحة لبنان. سوريا، التي انقلب شعبها الى كل جوار أو كل بحر، لا تزال مفاجآتها الكارثية تتوالد. ونحن منقسمون حولها، موحدة أو مقسمة. ومنقسمون حول القوى المقاتلة فيها. لكن الانقسام المريع الذي يميزنا عن سكان الكوكب، وكل كوكب، يثبت غداً أن عليه ماء وحياة، هو انقسامنا حول ما تعتبره بلدان البشر، بديهيات الحكم المدني: قانون الانتخاب وحق الزيادات على الرواتب، وحق الجباية.
ما يحال عادة على لجنة، أو لجنتين من الخبراء، صار عندنا من مسؤولية الرؤساء والحكومة والبرلمان والمعارضة. “هالكم أرزة العاجقين الكون” فاضت الآن عن حدود هذا الكون. عندما اراد فؤاد شهاب تطوير الامور في هذه البقعة، استدعى بضعة خبراء من فرنسا: واحد للهندسة، وواحد للرقابة المدنية، وبضعة آخرين. صحيح، نحن “عاجقين الكون”، لكن تبسيط هذه العجقة لا يستدعي أكثر من بضعة شرطيي سير من ايطاليا، تمتعنا يومها بعروضهم المسرحية في ساحة البرج وباب ادريس، وتفرجوا علينا نعتبر قانون السير، مثل كل قانون أرضي أو سماوي أو مطهري، تحدياً لكرامتنا الشخصية: عارف مين عم تحكي ولاه؟
قالها مرة أحد ركاب الترامواي لجار له في عجقة بلاد الأرز، فنظر إليه الرفيق الآخر وقال: “شهر تموز. والدنيا فطيس. وراكب التران درجة تيرسو، تفضَّل اشرح لي، حضرتك مين بتكون”.
اراد فواد شهاب انهاء “الجمهورية الثالثة” التي ورثناها عن فرنسا. كان يعتبر أن العلاقة بين أهل السياسة وعالم المال، فضيحة تهبط الى مستوى الخيانة. خلف كل سياسي في “الجمهورية الثالثة” كان “رجل أعمال”. كل أسبوع فضيحة. لم يعد الفساد تهديداً للنظام في الداخل، بل استفحل حتى أصبح خطراً يومياً عليها.
تطلع فؤاد شهاب حوله، فرأى أن صاحب مصرف “يملك” من النواب أكثر مما يملك رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء. ورأى السياسيين يمررون لرجال المال، المشاريع والتعيينات ويضعون الرجل الخطأ في المكان الخطأ، وشعر أن الدولة سوف تنهار، ليس في الخلاف على الرؤية الوطنية، بل في النزاع على الحصص. وأصبح الأمر أشد فقاعة عندما صار أكثر علانية، وصار رجل المال يملك ايضاً اللائحة الانتخابية، وبالتالي، الكتل البرلمانية. وبما أن المال لا يعرف سوى المصلحة والشهوة، رأى شهاب أن هذه هي الديكتاتورية الجديدة في لبنان كما كانت في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر حتى 1940.
أين سيبدأ الرئيس ميشال عون حملته على الفساد اليوم؟ نحن من جديد في تراكمات جمهورية ثالثة أكثر وضوحاً وفساداًً. ونسبة الفضائح أكبر مما كانت يوم وصل فؤاد شهاب. وبعض المتمولين يريدون تعيين اهل الداخل والخارج معاًً. بل حتى احتكار قرار المرجعيات الوطنية. وفي مثل هذا المناخ الموبوء، العاصي على قوانين الأرض ومفاهيمها، كيف يمكن البحث عن بقايا وظلال القوانين التي مزقت، أو رميت على الأرصفة، بينما كنا منشغلين في عجق الكون.
دفعنا في وجه العهد كل القضايا مرة واحدة. وطلبنا منه أن يحل كل مشاكلنا من غير أن نزوده السند القانوني، أو بالأحرى الجمهوري. قانون انتخابات يرسمه عندنا كل الكون إلاّ البرلمان. وموازنة يضعها جميع “الفذلكيين” إلاّ الحكومة. وزيادات تعطى للجميع إلاّ للمساكين والمستورين والمعذبين والمقهورين، ونصوص تغيب وتظهر، وتعلو وتهبط، إلا النص الدستوري. فهو للسلوى، لا للفتوى.
على بعد ساعة منا تدهورات دمشق، وعلى بعد أيام موعد القمة العربية في عمان. كنا نذهب إلى القمة ومعنا جميع العرب، ظالمين أو مظلومين، وسوف نذهب الآن، ونحن مدركون أن الزمن الماضي لم يعد ممكناً. المواقف تقابل بالمواقف، والشجاعة بالمروءة، والنأي بالابتعاد. فلم يعد يمكن أن نكون منقسمين على أنفسنا والعرب موحدون من حولنا. العصر الإذاعي قد انقضى من غير أن يبلغنا أحد ورقة النعوة. لقد انقضى. وإذا ما كنا قد رفضنا تسلم مذكرة التبليغ، فالمسؤولية على أهل البيت، لا على البوسطجي. مسؤولية ساعي البريد لا تتعدى إلصاق صورة عن المذكرة على الباب.
لا بد من نهاية لهذا الهزار. القتال في دمشق الكبرى، بين كل قوى العالم، ونحن نضن على موظفي الدولة بنسب ارتفاع التضخم. وحجم الفساد الف ضعف – على الاقل – حجم الواجب الاجتماعي والاقتصادي. وفي بلد صغير مثل هذا البلد، كل عين بلقاء هي عين بلقاء، وكل قحة هي قحة على السطوح، وكل تخاذل هو مشاركة في طمر بقايا هذه الدولة.
نتمنى على الرئيس ميشال عون أن يبدأ، بكل “قوته”، انهاء الجمهورية الثالثة التي لم يقوَ عليها فؤاد شهاب. أن يصارحنا باسماء الفاسدين والفاسقين. وأن يخبرنا، بصراحته وجرأته، من هم “رجال الاعمال” الذين يديرون سياسيينا ويقررون عنهم، ويحولنا الفريقان، إلى مجموعة باهتين منتفعين، لا دور لنا سوى البصم على هلاك الجمهورية.
القضية أكبر من أن تترك لـ”رجال الاعمال”. والجمهورية أهم من أن تسلم الى قدرتهم على الرشوة، وتعطيل مقاييس الخيار المدني والوطني. لقد أدى التهافت السياسي الى تهافت كل شيء. السقوط تمدد في كل مكان، وفي كل شيء. وفي غياب نقيب النقباء محمد البعلبكي قال رفيق خوري إن الرجل رحل فيما الصحافة الكبرى مهددة بالرحيل.
المفزع في رحيل الاجيال ليس فقط رحيلهم، بل حالة العقم العام التي تلي. محمد البعلبكي لم يكن صحافياً استثنائياً، بل كان انساناً استثنائياً في جيل استثنائي لا يقبل العاديين. جيل فوق الطوائف وتحت القانون. وجيل مقاييسه ومعاييره ومثله لا ترتضي سوى المكانة الأولى. تخيّل أن هذا الرجل كان استاذاً لغسان تويني واغناطيوس الرابع هزيم. عبر من “الازهر” الى الجامعة الاميركية، كمن يعبر من حارة إلى حارة. ودخل السجن باسماً وخرج ضاحكاً.
وكم تليق به وبسيرته ورفعته سورة الفجر: “يا ايتها النفس المطمئنة / ارجعي الى ربك راضية مرضية”.