كوفية المختارة / بقلم نبيل العقيلي

علـمٌ  تحـار  لفكـره  الأفكارُ              

بطلٌ بكت لغيابه الأقطارُ

**

ولَئِن نجحت بأن تغيب جسمَه         

فالجسم غير الفكر يا آذارُ

لا قطعا لا، ما هو مذكورٌ اعلاه، ليس مجرد بيتين من الشعر شكّلا مطلعاً لقصيدةٍ عمُرها ثلاثة وثلاثين  ربيعاً، بل كلمات قليله تصف حقيقة آمنت بها، ككثيرين غيري منذ أربعين عاما، وشعر بها الجميع في يوم الزحف العظيم.

كانت تلك الحقيقه واضحة على وجوه الناس الأوفياء، لامعة في عيونهم المشرئبه  إلى طيف ذلك الملاك العملاق الذي كان يحضن المكان  بجناحيه ويطل بوجهه ألأخّاذ المرصَّع الجبين بِدُرِّ السيدة العجائبية، من خلال حلل سندسية كان قد حاكها  أمير البيان، واختار مكاناً يليق بمقامها  وليده  الفذ.

كان موجوداً حيثما نظرت، في الصخور الجبلية الصلبه التي بُنيَ منها حصن المختارة المنيع وفي أغصان الزيتون التي دَفنت أوراقها اليابسه، ونهضت بحلَتها الخضراء المتجدِّده  مع قدوم الربيع، وفي هدير النهر البشري المتدفّق، وفي إغارة  أسراب الحمام الأبيض برمزيته المعروفة بين الفينة والأخرى مذكرا بيوم مصالحة الجبل التاريخيه.

كان يظهر في طهر الأشبال والزهرات وفي عنفوان من سبق وحملوا دماءهم على أكفهم في مواجهة الأحلاف الخارجية المتربصة شراً بالحركات التحررية اليسارية والقومية، وفي مواجهة احتكار السلطه في الداخل وممانعي إصلاح النظام.

كان يظهر فى الورود الحمراء التي اختزنت دماءه ودماء رفاقه الشهداء وفي حرقة المتألمين ومن ضاقت بهم سبل العيش ولكن لم ولن يفقدوا الأمل .

كنتَ ترى هامته مرفوعة تتوسط تموجات كل كوفية تزيّنت بها الاعناق، وتستظل بتواضع عمامات  أهل الحكمة والعرفان.

كانت تلك الحقيقه جليةً في حماسة الشابات والشبان وفي هِمّة الشيوخ الذين لم تخذلهم أقدامهم كما في باقي الأيام، كُنتَ ترى تلك الحقيقة  أيضا في حليب الرُضَّع  الذين أتى بهم ذووهم المُصَرّون على القدوم مهما كانت ظروفهم.

وسائل النقلِ لم تكن لتكفي هذه الحشود ولكنَّ الجميع مشى على تلك الطرق المتعرّجه المؤديّة إلى المختاره بكل حماسة ودون تذمرٍ ولا كللٍ او ملل، بعضهم تعوَّد  “الحج ” سنويا، فزيارة ضريح المعلم بالنسبة  له  أمر مقدس وتستحقّ العناء، ولكن ما كان ملفتا في هذه الذكرى أن  كثيرين  ممن لم نألف وجودهم من قبل في مناسبات مشابهة، كانوا في طليعة الحاضرين.

رحم الله المعلم واطال في عمر من حمل ومن سيحمل رايته ومن لبس عباءته التي لطخها أعداء الانسانية  بالدماء الزكية وعملوا على إثارة الفتنه وتأجيجها، لكنها وُئِدَت ولن يسمح لها بان تُطِلَّ برأسها من جديد، وان كره الكارهون. تلك العباءة التي اعاد وليد جنبلاط  تفصيلها كوفياتٍ من نوع مميز، لتكلِّلَ رؤوس كل الوطنيين اللبنانيين والفلسطينيين، وكل المقاومين الأحرار، وكل العرب التقدميين، ألا  وهي كوفية المختارة.

(*) بعدسة مروان عساف