كميل حبيب: اغتيال كمال جنبلاط إهانة للمستقبل

تحدث عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية في الجامعة اللبنانية الدكتور كميل حبيب  في ندوة بعنوان: “الثوابت في فكر كمال جنبلاط”، قائلاً:  لا أخفيكم سرا أنني تهيبتُ المقام والمقال حين قررت المساهمة في الحديث عن “الثوابت في فكر كمال جنبلاط”.

فكيف يتوصّل أي كان الى الإحاطة بتراث مفكّر وثائر وأستاذ جامعي وشاعر وأديب وحكيم وإنسان وقائد وصاحب الحلم الكبير للوطن الصغير؟

  • كيف لي تحليل من جمع في شخصيته بين المبدأ والممارسة، بين اللبنانية والعروبة، بين منطق الدولة وضرو رات الثورة، بين التديّن والعلمانية، وبين الوحدة والحريّة؟
  • وجدوا فيه مجموعة تناقضات: البرلماني الحاذق والثائر على النظام من داخل النظام، اقطاعيّاً وتقدميّاً، وعلمانيّاً ومرجعاً دينيّاً. ووجدت فيه:
  • قائداً وطنيّاً وزعيماً قوميّاً ومناضلاً أمميّاً.
  • واقعيّاً حالماً يمارس السياسة اخلاقاً على شفير الهاوية من أجل قضايا شكلت كل وجوده ورسمت في توهّج الروح قدره.
  • وشهيداً عبر جسر الموت الى الحياة ليشكّل بنضاله اللامتناهي ثورة الانتصار على الزمن… هو الشوق القديم الى المثال.
  • هو موقف ثابت، أمتهن الجدلية لأنها لغة العقل، ولم يبخل بنفسه في صراع الحياة.

إنّه “مرآة فسيفساء، شرقنا، بأحلامه ومآسيه، وصورته لتنوع شعبنا وفكرنا وتقاليدنا وتطلعتاتنا وصبواتنا النابعة من وحدة تاريخنا ومصيرنا”. (قالوا في كمال جنبلاط، ص 350).

رجل السياسة بفطرته مصلحي، يسخّر كل شيء من اجل المحافظة على مرجعيته او زعامته. كمال جنبلاط،الذي دخل معترك العمل السياسي مكّرهاً، إعتمد العقل للوصول الى الحقيقة. فتسلّح بسلاح العلم والمعرفة حتى أصبح تلك القامة اللبنانية العريقة والعربية الحضارية والعالمية المتألقة. تلك القامة الاخلاقية التي حملت كل القضايا المتبعة في الحرية والتواصل والانفتاح والتضامن والتفاعل والتسامح والسلام. وبعكس كل السياسيين الذين عاصروه من لبنانيين وعرب، كمال جنبلاط وضع رجليه في التراث وعقله في الحداثة. فأعتمد الثقافة لإقامة الحكم الصالح، ليبقى فرحه الكبير في الانتصار على الجهل، وليس في الانتصار على الخصم.

كمال جنبلاط إلتحف الارض مع العمال، وتعبّد السماء مع فلسطين في زمن التهوّر والتراجع العربي، ووقف في وجه موجات تقسيم لبنان، وحمل صليب المتعبين في الارض من احياء البؤس الى بكين وهافانا وكل أنحاء العالم. وكل هذه القضايا الانسانية جعلت حياته السياسية والفكرية في توتر دائم بين الواقع والمرتجى؛ “توتراً كان يميل عند المنعطف التاريخي الصعب ناحية المثال… أليس المثال هو الروح الذي كابد مشتقات الانتظار في محطات الزمن الباردة منتظراً موعد سفره من المطلق الى النسبي، من الباطن الى الظاهر، من العقل الى المجتمع والتاريخ، ومن ليل الحلم الى صبيحة الواقع؟”. (عفيف فراج، 1987، ص 73).

إن الانكباب على قراءة كمال جنبلاط مجدداً انما للتأكيد على أمر لا يختلف عليه اثنان: إن مسيرة كمال جنبلاط الرسولية قادته لأن يضحي بنفسه في سبيل شعبه، وفي سبيل القضية التي نذر نفسه من اجلها… وهو القائل: “الحياة شعلة مضيئة أمسكت عليها بيدي، وعليّ واجب أن اجعلها أكثر ما تكون نوراً وتألقاُ قبل أن أسلمها للأجيال القادمة”.

لو أغمض احدنا عينيه عن التاريخ، وقرأ وتبصّر في كتابات كمال جنبلاط، ليتخيل اليه انها كتبت اليوم. وكأنما “المختارة”، “المصطفات”، “المنتقاة”، زرعت لنا في مستقبل الايام قبساً، كلماأدلهمت الخطوب، أضاءت لنا الطريق وأوضحت لنا المعارج. كمال جنبلاط، برسالته الانسانية، كسر كل القيود واجتاز كل الحدود، حدود الدار والوطن والمحيط، ليصبح تراثاُ حضاريّاً يصلح لكل زمن. نعم، وانا المنكب على قراءة كمال جنبلاط، أِشعر دائماً بالحاجة الى دراسته مجدداً وبعمق لإستخلاص العبر والدروس على دروب الخلاص. نعم، “إن قراءة كمال جنبلاط هي قراءة الحياة في بساطتها وسعادتها، ومعرفة عظمتها…” وليسامحني القول من هم في الدين أجذر مني: إن كمال جنبلاط خرج من القبر يوم استشهاده، قتل ولم يمت، فلا تفتشوا عن الحي بين الاموات؛ بل اقرأوه، اقرأوا زارع القمح وآكله حتى لا تأكلوا عشباً يابساً أو شواناً او حجارة.

أعتبر كمال جنبلاط لبنان “بلد أعظم تنوّع ثقافي”،  بإمكانه أن يعطي العالم أمثولة، وأن يكون رمزاً ضرورياً للتوفيق بين الثقافات، لأنه إنساني حقاً… وأكثر من ذلك، بالنسبة لكمال جنبلاط، لبنان هو صيغة مثالية لوحدة الحياة بين ابنائه، لو اننا ارتضينا التنوّع في الوحدة لا التعدد في الوحدة. (من أجل لبنان، ص 130) ففي هذا التنوّع في الوحدة يكمن السر الذي يجعل التناقضات والاختلافات والأزمات تجد في النهاية لها حلاً واقعيّاً منسجماً وتسوية معقولة. (لبنان في واقعه العربي ومرتجاه، ص 66) إنه، في الحقيقة، التنوّع الذي جعل من الشخصية اللبنانية شيئاً عظيماً بحد ذاته، أي كينونة معنوية منفتحة على النقاش الحرّ، وعلى النقد الصريح، وعلى تقصّي الحقيقة… هذا يعني ان هناك رابطاً عضوياً بين التنوّع والحرية.

وتفصيلاً، حدد كمال جنبلاط ماهية لبنان على النحو التالي:

  • لبنان بلد العقلانية المجردة من شتى تيارات الجهالة والهوس البدائي الذي يرافق غالباً تطوّر الجماعات المتأخرة… فلولا هذه العقلانية لما قام هذا البلد ونما وتطوّر.
  • لبنان هو واسطة لنقل الحضارة. فمن يبادل السلع والمنتوجات يبادل في الوقت ذاته الافكار والقيم.
  • لبنان ليس، ولا يجب ان يكون، تابعاً لأحد، بل ينشد التعاون على قاعدة المساواة مع كافة الدول العربية.
  • لبنان هو وطن الحرية.
  • لبنان هو بلد التسامح الديني وليس بلد التعايش الديني القائم على التعصّب والحقد المكبوت. ويقول في هذا الصدد: “حين ينزل الدين الى مستوى التجمّع الطقسي الطائفي لا يعود ديناً بل حزباً”.
  • لبنان هو أزمة دائمة (بلد التناقضات)، ولكنه أيضاً أزمة محلولة. هكذا شاء القدر، وهكذا علينا ان نرتضيه ونرتجيه.
  • لبنان أثبت أنه قادر وبأنه يمتلك كل المقومات والامكانات كي يكون وطن محبة وعدالة ومساواة. (لبنان في واقعه العربي ومرتجاه، ص 70 – 82).

اعتبر كمال جنبلاط النظام الطائفي، والليبرالية المتحررة من كل قيد اخلاقي وانساني، مسؤولان عن فتح الباب امام الفساد المستشري في الحياة السياسية. وقد نبّه الى هذا التعاقد الجهنمي في حينه بقوله: “ان المال ودفقه يجلب معه الفساد”. (في الممارسة السياسية، ص 75). وتفصيلاً، فقد فنّد كمال جنبلاط المعوقات أمام بناء الدولة الحديثة على النحو التالي:

  • الذهنية الطائفية التي انسابت في عروق الدولة ومؤسساتها فكرّست الطائفيّة في الادارة والقضاء، وغدا الموظفون يعملون لمصلحة أبناء طوائفهم ومذاهبهم لدرجة أصبحت المذاهب احزاباً سياسية.
  • تحوّل الزعامات التقليدية الى زعامات طائفية.
  • غياب الاحزاب السياسية الحديثة في تنظيمها. (حقيقة الثورة اللبنانية، ص 86-88).

 

وفي رؤيته الثاقبة، حدّد كمال جنبلاط حاجات لبنان للنهوض والتقدّم؛ والتي لو تمّ العمل بها، لكنّا وفرّنا على أنفسنا المحن والويلات كلّها. فلبنان بحاجة الى ما يلي:

  • تصميم في الاعمال.
  • تعديل أساسي لقوانيننا ومؤسساتنا.
  • تحقيق ضمانات اجتماعية واسعة وشاملة.
  • وضع خطّة انمائية متوازنة لتنشيط الحياة الزراعية والصناعية والحرفية في الارياف للحدّ من الهجرة الداخلية والاكتظاظ السكاني في المدن.
  • حماية البيئتين الطبيعية والاجتماعية.
  • اعادة النظر في المناهج التربوية بجعل التعليم تثقيفاً للعقل وللروح، وليس تكديساً للمعلومات. (لبنان في واقعه العربي ومرتجاه، ص 83-90)

وتجدر الاشارة الى أن كمال جنبلاط رفض في اطروحاته الاصلاحية انصاف الحلول. وفي رأيه: “من لا يعرف أن يرفض لا يستطيع أن يميّز، في القياس، بين الخطأ والصواب….” (في الممارسة السياسية، ص 107) وكم كان يردّد عند كل منعطف وأمام كل تسوية: “لا يجب ان تحصل التسوية على حساب المبدأ”. (في الممارسة السياسية، ص 57) وعليه، فقد رأى كمال جنبلاط أن المدخل لنقل لبنان من “نطاق نظرية الخطر الى نطاق نظرية التحرّر الكامل”، تكون بالعمل على بناء دولة ديمقراطية علمانية عربية، وليس دولة الطائفية والاستغلال والعمالة.

 

وبشكل عام، طرح كمال جنبلاط الكثير من الاصلاحات التي تطال بنية النظام في كل مفاصله السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي بأكثريتها وجدت طريقها الى حد كبير في مندرجات اتفاق الطائف. فعلى السبيل المثال لا الحصر، وحيث ان كمال جنبلاط وجد في “التجديد” مرض الرؤساء، رأى أن لرئيس الجمهورية “وظيفة الحكم” الذي يرتفع فوق مستوى الحزبيات الضيّقة؛ ووظيفة القاضي الاول الذي يراقب تنفيذ القوانين واحترام الدستور؛ ووظيفة الموجه لعمل الأجهزة الرقابية والانمائية.

 

وبإختصار، كان كمال جنبلاط قائداً سياسيّاً وشعبيّاً يهتم بشؤون الناس الحياتية، ويعمل على تطوير مفاهيم الحكم بما يتلائم مع متطلبات العصر وينسجم مع اسباب التقدّم والحضارة. كما إنه “كان صلباً لا يتراجع عما يراه خطأ، ولا يساوم على ما يرى فيه خيراً لأبناء وطنه…ويرفض كل ما من شأنه أن يمس الاخلاق والمصلحة العامةوالقوانين، ولو تعارض ذلك مع مصالحه الشخصية”. (قالوا في كمال جنبلاط، ص 184-185) وبقي يحلم، ولا نزال نحن نحلم معه:

  • بأن يزول كل تمييز بين اللبنانين
  • ان تتحرّر جامعاتنا ومعاهدنا الخاصة من التوجيه الطائفي.
  • بإستقلالية القضاة والقضاء.
  • بنظام للخدمة الاجتماعية والعسكرية.
  • بإلغاء الطائفية السياسية.
  • بمجلس نيابي خارج القيد الطائفي.

وللتاريخ نشهد: كمال جنبلاط الانسان دفع حياته ثمناً لصفاء بصيرته. أراد تحرير الانسان اللبناني والانسان العربي من سجانه، لأن الصنمية لا تحرير فلسطين، بل تغتال العقل، فكان تغييب كمال جنبلاط إهانة للمستقبل.