رسالة “إدفنوا موتاكم وإنهضوا”؟

صلاح ابو الحسن

ليس عاديا ولا سهلا ان يُلبس وليد جنبلاط بيديه “الكوفية” الفلسطينية العربية لتيمور.. مع كل ما تعنيه.. مقرونة بـ”إدفنوا موتاكم وإنهضوا”.. وكأنه يستشرف المستقبل ولو كان اليوم “مجهولا”.. وهو يعرف ان تاريخ “الانتقال” السياسي في العائلة الجنبلاطية، كان مجبولا دائما بالدم.. على الأقل، كمال جنبلاط لم يكن شاهدا على إلباس العباءة لوليد جنبلاط.. ودم “الكوفية” ليست أقل من دم “العباءة”.. و”القدرية” راسخة في عقول الآباء والأجداد.. والتاريخ يشهد..

لا شك ان وليد جنبلاط قرأ في عيون وعقول ومشاعر الجماهير المحتشدة في المختارة بمناسبة الذكرى الاربعين لاستشهاد كمال جنبلاط، القلق.. وقد أخذتهم الريبة والشكوك الى زمن غابر زمن اغتيال “المعلم” الرمز الوطني والعربي والعالمي.. وكأن الغابر يتجدد ويستيقظ اليوم.. ولهذا استهل كلمته بالقول للحاضر والغائب ولمن يهمه الامر: إدفنوا موتاكم وإنهضوا”.. وكانه يقول: اعرف تحديات المستقبل ولكن خيارنا “النهوض” والتحدّي..

هذه اللازمة تكررت علّها تترسخ في عقول الجميع.. لأن ما حدث قبل اربعين عاما سبقه اغتيال سياسي لكمال جنبلاط.. فهل نحن امام سيناريو مشابه؟؟!!.. التاريخ يقول ان الإغتيال السياسي هو “المقدمة”. وربما تذكرت الجماهير القول الشعبي: “كلام الناس من طبع الفلك”!!..

“إدفنوا موتاكم وإنهضوا”.. اراد منها القول ان ارث الدم “ثقيل”.. ولهذا كانت مصالحة الجبل برعاية ومباركة الكاردينال صفير محطة تاريخية.. والتذكير بها من قبل وليد جنبلاط لا يُقصد منه، لا الاستغلال ولا الإستثمار السياسي كما فسّرها بعض صغار القوم..

ولذلك جدّد القول ان ما حدث عقب اغتيال كمال جنبلاط هو يوم “أسود” في تاريخ الجبل.. واليوم بات الكل يعلم ان القاتل “المعروف” كان يخطط لخطف “المعلم” وقتله في منطقة ذات لون طائفي معين “مسيحي” لتوجيه التهمة الى مكان آخر.. ولما لم تنجح الخطة حرّضت مخابراته على ردّات الفعل..

لهذا، فان إدفنوا موتاكم وإنهضوا” تعني العودة الى ماضي الجبل الجميل الى تاريخ التنوع لا العودة الى الصفحات السود، مهما حدث.. العودة الى تاريخ الشراكة.. فالشراكة والتنوع تستحق التضحية، كما قال وليد جنبلاط، فيما التعصب الطائفي مدمّر للوطن.. ولهذا فان المصالحات في الجبل تستحق التضحيات من اجل حماية لبنان.. وحتما لا معنى للتضحيات من اجل الدفاع عن السياسات الضيقة.. والجامع والكنيسة والعمائم البيضاء المحيطة بالمختارة هم حراس المصالحات..

وآن لنا ان نتعلم بأن تجارب الحرب الأهلية والمذهبية، تجعلنا ساحة للصراعات الاقليمية والدولية.. والقوة ليست في تاجيج الصراعات.. فالدخول في آتون الحرب سهل.. انما القوة الحقيقية هي في الخروج من الحروب وفي صنع السلام..

أما “كوفية” المختارة، كوفية كمال جنبلاط فهي تعني المصالحة والتنوع والاصلاح السياسي وتعني تلاقي وتلازم الوطنية اللبنانية والعروبة فهما لا يتناقضان.. وهي دعوة لدفن الخوف الذي ينتاب البعض عند الحديث عن العرب والعروبة.. فالعروبة وحدها تحمي لبنان والخوف كان على الدوام سياسيا وليس واقعيا.. وعلى هؤلاء ان لا يُؤخذوا بكلام سعيد عقل الذي طالب الدولة ببناء “جدار عال يصل الى السماء لمنع الهواء السوري والعربي من الدخول الى لبنان”.. ولذلك كان كمال جنبلاط يقول لهؤلاء الخائفين.. وهم معروفون، ان “الخوف خلاّق اوهام”.. ولا ندري اذا زالت هذه الاوهام..

و”الكوفية” تعني العودة الى الزمن والعصر اللبناني الجميل، يوم كان لبنان حاملا راية القضية العربية الاولى والمركزية قضية فلسطين.. والكوفية تعني العودة الى كمال جنبلاط شهيد فلسطين.. والعودة الى النضال العربي الفلسطيني المشترك.. خاصة وان العرب اليوم نسوا فلسطين وعرب فلسطين.. ومآسيهم.. بعد ان بنى قادة وملوك ورؤساء العرب أمجادهم، وتربعوا على كراسيهم تحت شعار كاذب “تحرير فلسطين”.. ومن بقايا هذه “الشعارات” “الممانعة”.. حتى ان بعضهم اعطى سجونهم اسم “فرع فلسطين”.. وتحت هذا العنوان اضطهدوا وسجنوا ونكّلوا وجوّعوا وقتلوا ويتّموا الأطفال وسلبوا حريات شعوبهم.. وكمّوا افواه المثقفين والأحرار.. وكل ذالك تحت شعار آخر: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”..

“ادفنوا موتاكم وانهضوا”.. تعني ان اربعين عاما قضاها وليد جنبلاط وهو يحبس الدمعة والحزن على كبير الشهداء.. وهو يودع الشهداء الذين قضوا من اجل الدفاع عن عروبة لبنان.. حابسا ايضا الدمعة والحزن.. ولسان حال الثوار تقول له: نحن نبكي ونحزن عنك.. وتأكد أن المبادىْ تبقى هي هي.. وهكذا استمر يسير وراء الجنازات.. والقاتل واحد ومعروف.. ولو تم تجهيله.. فالمحاكم والقضاة لن يقولوا جديدا لا نعرفه.. المعروف والواضح ينكره فقط الفاعل وحلفاؤه..

ومنذ اربعين سنة ووليد جنبلاط يسير بين الالغام.. السياسية والعسكرية.. ووراء الرايات السود.. فيما الجيش الشعبي الذي اسّسه كمال جنبلاط يقاتل الجيش السوري الذي منع “الانتصار” على اصحاب المشروع الصهيوني التقسيمي.. ويقاتل الاحتلال الاسرائيلي رفضا لتقسيم لبنان.. الجيش الشعبي رافق والده ورافقوه.. في الدفاع عن الجبل وعن وحدة وعروبة لبنان واسقطوا اتفاق 7 ايار المشؤوم عام 1983..

لكنه يقول اليوم كفانا هدر دماء في غير مكانها، وكفى لبنان جنازات وحزن ودموع.. لا يريد ان يكمل احفاد ثوار الـ58 وابناء الجيش الشعبي مشوار النضال مع تيمور.. كفى هدرا للدماء من اجل مصالح الآخرين.. كفانا وداع شهداء جدد.. هو ارتدى عباءة ملطخة بالدم، دم ابيه ودم الضحايا الابرياء.. ويريد لتيمور ارتداء “كوفية” النضال الوطني والعربي والفلسطيني…

رسالته الى تيمور ان يُكمل ما انتهى اليه جدّه كمال جنبلاط.. الذي حمل لواء فلسطين.. وان يستعيد امجاد “الجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية” الذي كان يقودها كمال جنبلاط.. وان يستعيد نصرة الثوار ضد اسرائيل..

واختتام مهرجان 19 آذار بنشيد الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان “موطني” وهو نشيد الكفاح المسلح.. و”الكوفية” الذي استعملها لأول مرة المناضل عبد القادر الحسيني ضد الإحتلال البريطاني.. رسالتان واضحتان.. واللبيب من الإشارة يفهم.. اذا اراد ان يفهم..

ورسالته الى تيمور ايضا، ان يحافظ على “الدار” فـ”المختارة” كانت عبر التاريخ دار كل الوطنيين وكل اللبنانيين ودار التنوع والمصالحات والشراكة.. ودار “غقد الرايات”.. ودار الحوار والتسويات السياسية، ودار العمال والفلاحين والفقراء.. ودار العروبيين والفارين من ظلم أنظمتهم الديكتاتورية.. أنظمة السجن العربي الكبير..

ورسالته ايضا، حمل راية الاصلاح السياسي فالبرنامج المرحلي الذي أطلقه كمال جنبلاط لا يزال صالحا حتى اليوم.. ولو قبلوا به يومها لكنا جنّبنا لبنان الحرب الأهلية التي لا زلنا نعيش مآسيها حتى اليوم..

وأخيرا، العودة الى احتضان وتفعيل الحركة الطلابية والنقابات العمالية.. والنضال المطلبي.. فالشباب هم “سن البطولة” كما كان يسميهم “المعلم”.. ولا ننسى ان حسان ابو اسماعيل كان اول طالب شهيد في لبنان وهو من الحزب التقدمي الاشتراكي.

ونقول لتيمور الحمل كبير والإرث ثقيل ولكن كل الآمال الحزبية والسياسة والوطنية معقودة عليك.. سر وارفع رأسك وجبينك عاليا.. عدّة الشغل موجودة.. وكلنا الى جانبك والى جانب المختارة..

(*) بعدسة مروان عساف