السيادي الذي قاوم “السجن الذهبي الكبير”

سعد كيوان (ليبانيز كورا)

قبل أربعين سنة هوى كمال جنبلاط برصاص الغدر على أيدي النظام السوري، الذي كان حافظ الأسد قد أحكم قبضته عليه عام 1970بانقلاب عسكري، ودفع بجيشه عام 1976 إلى لبنان، ليفرض هيمنته ووصايته عليه زهاء ثلاثين سنة باسم “الأخوة القومية”. تلك الوصاية، بما هي تدخل في شؤون لبنان الداخلية وانتهاك لسيادته، رفضها جنبلاط صراحة وتصدى لها، وواجه الأسد قائلا: “لن أدخل قفصك الذهبي الكبير”.

صحيح أنه سليل عائلة إقطاعية، ذات نفوذ واسع في جبل لبنان منذ ما قبل الاستقلال، إلا أنه أصبح زعيماَ سياسياَ وشخصية وازنة، ورجل فكر ومعرفة وثقافة موسوعية. فقد أسس عام 1949 “الحزب التقدمي الاشتراكي”، مع نخبة من رجال السياسة والفكر والثقافة، ينتمون إلى مختلف الطوائف اللبنانية. رفع شعار “من أجل اشتراكية ذات وجه إنساني”، بقصد التمايز عن تجربة الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. وكان يكره بشدة العسكر والأنظمة الشمولية التي سيطرت على مقدرات عدة بلدان عربية في مطلع خمسينيات القرن الماضي، من مصر إلى سوريا والعراق، ثم تباعاً الجزائر وليبيا والسودان.

انتخب جنبلاط نائباً في البرلمان اللبناني، وهو في سن السادسة والعشرين (مواليد 1917)، وعام 1946 كان أول من وقف يحاضر في الديمقراطية، ويكتب عن الحرية والمواطنة. لم يخف أعجابه بجمال عبد الناصر، إلا أنه يوم إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، توجه إلى دمشق على رأس وفد للتهنئة. وهناك، التقى عبد الناصر، وكان مطلبه الأساسي الحفاظ على استقلال لبنان، رافضاً أن يكون أسير “السجن العربي الكبير”.

ولاحقاً، وضع حافظ الأسد يده على لبنان وحوله إلى “سجن صغير”، فطوّع سياسييه، وعاث خراباً في مؤسساته ونهب اقتصاده. وكان “الحاكم العسكري” المقيم في عنجر، يشكل حكومات ويسقط أخرى، وينظم انتخابات ويركّب لوائح وينجّح سياسيين، ويلغي آخرين. ولأكثر من عقدين، اتبع الأسد سياسة “فرق تسد”، فكان تارة يقف إلى جانب “منظمة التحرير الفلسطينية” والأحزاب اليسارية والقومية اللبنانية ضد الأحزاب اليمينية، وتارة العكس. كان يحرّض المسلمين على المسيحيين، ثم ينقلب ليحرّض المسيحيين على المسلمين، إلا أنه كان عملياً يعتبر أن كمال جنبلاط وياسر عرفات ومن معهما هم باختصار “مسلمين”، فعليهم الانصياع لسياسته وأوامره.

وهذا ما اكتشفه منذ البداية جنبلاط الذي كان صاحب مشروع سياسي إصلاحي، يحلم بعملية تغيير على أساس لاطائفي. وهو بالمناسبة أول من طرح مشروع قانون انتخاب قائم على النسبية وانما خارج القيد الطائفي. فكان أول المتمردين على إرادة الأسد وسلطته في لبنان، فسعى إلى إيقاع الهزيمة العسكرية بالخصوم، فتورط في الحرب، رغم أنه كان متصوفاً، ولاعنفيا. وفي أيار 1976 تلقى أول ضربة موجعة باغتيال شقيقته الوحيدة، لكنه لم يتراجع. وفي خريف العام نفسه، كان آخر لقاء جمعه مع الأسد عاصفاً، أصر فيه جنبلاط على مواقفه رافضا طرح الكونفدرالية بين سوريا ولبنان والاردن، والتدخل العسكري في لبنان.

في بداية عام 1977، غادر جنبلاط بحراً إلى باريس، بحثاً عن دعم أوروبي ودولي في مواجهة صلف النظام السوري، فاعترضته البحرية الإسرائيلية، واحتجزت الباخرة التي كان يستقلها ساعات في عرض المتوسط. وفي باريس، استقبله الرئيس الفرنسي يومذاك، فاليري جيسكار ديستان، واعدا بعقد مؤتمر دولي حول لبنان. كما سعى للقاء ريمون اده الذي التجأ الى العاصمة الفرنسية بعد تعرضه لمحاولة اغتيال، والأب ميشال حايك الذي ألح عليه بالبقاء لفترة في باريس لأنه كان يستشعر بخطر عليه. ومن باريس، توجه جنبلاط إلى القاهرة للقاء الرئيس المصري، أنور السادات، الذي كان على خلاف مع الأسد، والذي نصحه بالبقاء في العاصمة المصرية، لأن لديه معلومات عن احتمال تعرضه للاغتيال. إلا أن الزعيم اللبناني آثر العودة إلى لبنان، ليواجه مصيره على أرضه، وهو الذي كان يردد أن “من يتهرب من معركة الحياة كمن يتهرب من معركة الحق”.

اعتبر الرئيس السوري تحرك جنبلاط بمثابة “التحدي الوقح” لسلطته، ولنفوذه في لبنان والمنطقة، فقرر على ما يبدو التخلص منه. لم يحترز جنبلاط، ولم يتخذ أية تدابير في تنقلاته. ويوم 16 آذار 1977 وهو في طريقه إلى بيروت، اعترضته سيارة على بعد أمتار من حاجز للجيش السوري، ترجل منها رجلان، وأطلقا النار عليه، فأردياه. وكانت أول ردة فعل فورية وعفوية خروج دروز عديدين، يريدون الثأر لمقتل زعيمهم، فقتلوا وذبحوا 200 مسيحي في منطقة الشوف، مشعلين فتنة مازالت آثارها ماثلة بين المسيحيين والدروز.

قضت عملية اغتيال جنبلاط على أي أمل بامكانية التغيير، وحولت الصراع في لبنان إلى صراع طائفي ميليشيوي، يستمر اليوم بأشكال مختلفة، داخل المؤسسات وخارجها. وأحكم النظام “البعثي” قبضته على البلد، زهاء ثلاثة عقود، بشكل شبه كامل بعدما أصبح طرفا الصراع “يحتكمون” إلى دمشق في حل خلافاتهم، وتوسل مصالحهم.

لم يكن جنبلاط سياسياً بالمعنى التقليدي، على الرغم من أنه وريث زعامة تضرب جذورها في التاريخ، ولم يكن أيضاً قائداً أو زعيم حزب بالمعنى التقليدي، إذ كان يعتبر أن ضمير الإنسان هو الأهم: “إذا خير أحدكم بين حزبه وضميره، عليه أن يترك حزبه ويتبع ضميره، لأن الإنسان يمكن أن يعيش بدون حزب، لكنه لا يستطيع أن يحيا بدون ضمير”.

كما أن السياسة بالنسبة له “يجب أن تكون أشرف الآداب على الإطلاق”. ولم يكن جنبلاط سياسياً فقط، بل كاتباً ومفكراً وفيلسوفاً صاحب نظرة إنسانية عميقة، له أكثر من ثلاثين كتاباً ومؤلفاً وتأملات في معنى الإنسان والوجود، وله أيضا ديوان شعر.

كان رجلاً متواضعاً، متقشفاً في حياته الشخصية. وكان متصوفاً، ينسحب فجأة من المعترك السياسي للاختلاء إلى نفسه وممارسة رياضة اليوغا، وزار أكثر من مرة الهند لهذا الغرض.

كانت حرية الإنسان هاجسه، بحث عنها وقاتل من أجلها. كان يعتبر أن “لا حرية ولا تقدم من دون وعي وإدراك للذات” وقدراتها. ولبنان لا يزال اليوم يعاني مما استشرفه وتصدى له، وناضل من أجله كمال جنبلاط، من غياب للدولة واستمرار العبث المليشيوي بأمنها وقرارها، ناهيك عن استمرار عمليات الاغتيال لقيادات ومثقفين وأصحاب رأي.

وليد جنبلاط، هو وريث والده الذي لم يحضّره للوراثة. بعد أكثر من ثلاثة عقود من البراغماتية، يقول إنه يجلس، اليوم، على ضفاف النهر ينتظر عبور جثة خصمه.