كمال جنبلاط: آمن بقدره وتحرر من قيود السجن الكبير

اتسعت له السماء، وضاقت بفكره الارض. ضاقت إلى حدّ تخطّيه للتقاليد الصنمية، فحطّم أسوار السجن العربي الكبير. دفن التبعية، وبنى أفكار الربيع العربي وجهّزها بالخمير. لم يؤمن “المعلم” كمال جنبلاط بمنطق عرقي، فكان زاهداً بالحياة، وبالموت، خرج من عباءة السلالات، وهو السليل لعائلة تمتدّ جذورها إلى ما ينوف الألف عام. من جدليات الحياة ولد كمال جنبلاط، هاب إيمانه الموت. عاده أكثر من مرّة وتراجع، والمعلّم يكرر “أموت أو لا أموت فلا أبالي، فهذا العمر من نسج الخيال”. وإن أفقه الموت، فالرصاص لا يفقه، ولو يفعل لكانت رصاصات الغدر حين هوت، لو أبصرت عينيه سجدت تعتذر. الموت بالنسبة إليه، إنتقال من مرحلة إلى أخرى، وهو الفيلسوف من روح الهند. والموت وهم حسّي تفرضه جدلية الحياة.

كاد المعلّم أن يكون رسول. قبل أيام من أدائه رسالته الدنيوية الأبدية، كان المعلّم يؤدي رسالته الأخيرة، واختتمها متوجها لله “ربّ أشهد أنني بلّغت.” سبق كمال جنبلاط زمنه. ذهب بالسياسة بعيداً، فنقلها من فنّ الكذب، إلى فعل من يسوس الناس ويرعى أحوالهم. حين تعرّض لمحاولة اغتيال إسرائيلية عبر أحد الطرادات خلال رحلة بحرية، كان مطمئناً فيما رفاقه خائفون، فرددّ على مسامعهم أن الساعة لم تحن بعد. وفي حادث آخر على متن إحدى الطائرات، وبعد أن ظنّ الوفد المرافق له بأن الطائرة تكاد أن تسقط، توجه إليهم بالقول: “لن نموت الآن، أنا أعرف أين أموت.”

في آخر زيارة له إلى القاهرة وقبيل اغتياله بفترة قصيرة، تمنّى عليه الرئيس المصري الراحل أنور السادات أن يبقى في مصر، فأجابه: “أريد أن أعود لأموت بين أهلي وناسي”. كان كمال جنبلاط قدرياً، فترافق معه إلى حدّ التآخي، وكان يعرف قدره جيّداً. لم يخذله حدثه. قبل دقائق من اغتياله، ولدى مغادرته قصر المختارة، طلب بأن يرافقه شخصين فقط، فيما كل المرافقين ينظرون إليه، ولا يريدون سؤاله عن السبب، شخص بنظرته العميقة نحوهم وقال:” فوزي وحافظ فقط، بدناش نكبّر الحاجز.” فترة قصيرة وكان الظلاميون في انتظار البيك التقدمي، فأرادوا إرداء شمعة في النفق العربي المظلم. اغتيل كمال جنبلاط، لكن، لكل جدلية وليد، وفي الوليد تتجلّى آفاق المعلم النورانية.

هو العالم الذي اجتمعت في شخصه عوالم. فكانت ثورته في عالم الإنسان، لأجل المستقبل، خطّ وصيّته في أضواء على الأزمة اللبنانية والقضايا القومية، مزج الماركسية بالإشتراكية الإنسانية، ليصل إلى جوهر الإبداع ووحدة التحقق. قدّس الحرية، ولم يهرب من معركة الحياة، لكن الموت أجبن، لم يجرؤ على المواجهة، فكانت ساعة الحقيقة. ووصل إلى ما أراده من الصراع في سبيل الحق، وهو الإستشهاد، لصالح إنتصار الأجيال القادمة عبر التمسك بالحرية، ليتجسّد إنتصار الإنسانية، وإنتصار التقدمية على الرجعية. فتماهى بشخصه مع المبدأ إلى حدّ الإستشهاد.

ذات زيارة أجراها المعلم كمال جنبلاط إلى القاهرة. توجّه رئيس الوزراء المصري إلى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر سائلاً باستغراب:” فخامة الرئيس لماذا تستقبل هذا الرجل وهو وزير للداخلية وأنت رئيس للجمهورية، أليس من الأفضل أن ترسل وزير الداخلية لإستقباله؟” فجاء جواب عبد الناصر على قدر عظمته، وقال:” دا المعلم كمال جنبلاط، دا بفكره وعلمه لازم يكون من كبار قادة العالم، لكن قدره جاء به إلى لبنان، وهو دولة صغيرة لم تحتمل علمه وفلسفته للحياة، عشان كده ووفاء لكمال حفضل أستقبله بنفسي.”

لم يكن كمال جنبلاط سياسياً، هو السائس بالحقّ، والسائر إليه، لم ينتم إلى مدرسة سياسية، كانت مدرسته الحياة، ولم يكن صراعه في الحياة قائم على الحسابات السياسية والمصلحية، مسؤولية الحياة والموت فرضت عليه أن لا يبخل بنفسه في سبيلها. الدم الذي أريق ذات ربيع من آذار، أزهر في ربيع من آذار آخر، ومهما طال الصقيع، فإن الربيع آت.

(*) ربيع سرجون