كمال جنبلاط… والبرنامج المرحلي للاصلاح

بقلم ناجي مصطفى

لا ادري لما حضرني برنامج المعلم الشهيد كمال جنبلاط للاصلاح وأنا أتفكر فيه في ذكرى استشهاده الاربعين، وذلك في زحمة مشاريع وبرامج يطرحها بعض مراهقي السياسة في عجالة اليوم، والتي هي في ظاهرها اصلاحية تغييرية وفي باطنها كيدية طائفية.
ولعمري أن البرنامج المرحلي للاصلاح الذي قدمه كمال جنبلاط مع كوكبة من رفاقه القادة في الحركة الوطنية اللبنانية منتصف سبعينات القرن الماضي كان أكثر حداثوية وشمولا من كل ما يطرح اليوم في بازار المزايدات السياسية، لا سيما على مستوى المشاريع الانتخابية، التي تستظهر شراهة غير مسبوقة لناحية سعيها للاطباق على العدد الأكبر من المقاعد النيابية فيما تستبطن بالتأكيد توجهات إلغائية فئوية متجلببة تارة بعباءة الاصلاح وطورا بصحة التمثيل وعدالته.

لقد بات من نافل القول أن المعلم الشهيد كان أول من طرح في برنامجه الاصلاحي مبدأ التمثيل النسبي على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة، لكن الأكيد أن لبنان كمال جنبلاط آنذاك هو غير لبنان اليوم ، وأحزاب مرحلة كمال جنبلاط هي بالقطع غيرها اليوم.

في الماضي كان ثمة يسار ديمقراطي علماني يحمل تصورات تقدمية لمستقبل لبنان ويطمح الى إحداث تغيير جذري في بنية النظام الطائفي المريض، في مقابل يمين رث ارتضى لنفسه أن يكون حارس ذاك النظام المتهالك لما كان يقدمه له من منافع ومصالح سواء على مستوى السلطة ومواقعها المختلفة أو على مستوى الاقتصاد الذي كانت تتحكم بعنقه قلة اوليغارشية زبائنية دافعة به نحو أشكال من الريعية الانتهازية بعيدا عن اي معنى لاقتصاد وطني حقيقي وازن يستوعب اليد العاملة المحلية بمجموعها مبعدا عنها شبح البطالة ويعيد توزيع الثروة الوطنية على نحو أكثر عدالة من ذي قبل.

لقد كانت حرب العام 1975 في أحد وجوههاوتجلياتها إذن، تعبيرا عن ذلك الصراع العميق بين نظرتين متعارضتين: دينامية يسار وطني صاعد بقيادة كمال جنبلاط يحلم بالتغيير في مقابل ديماغوجية يمين ليبرالي متهالك أدرك أن قبضته التي كانت تمسك بالنظام والاقتصاد معا بدأت بالتراخي، فلجأ الى إشعال الحرب الأهلية في محاولة منه لاستنقاذ النظام الطائفي الحامي لشبكة المصالح والمنافع تلك.

اليوم يأتي اليمين بنسخته المتجددة، وبمكونيه المسيحي والاسلامي هذه المرة، ليستعير أطروحة كمال جنبلاط في ما خص اعتماد النسبية واعتبار لبنان دائرة واحدة ، لا ليدفع بالاجتماع اللبناني نحو الانعتاق من الطائفية كما رمى إلى ذلك مشروع كمال جنبلاط انما لتأبيد الطائفية وتعميقها في الوجدان الجمعي العام ، ذلك أن الاحزاب ذات البنى الطائفية المغلقة أو تلك التي تعتمد منطلقات ايديولوجية دينية طائفية لا يمكن لها بحكم بناها تلك إلا أن تكون حارسة للنظام الطائفي والمذهبي حتى ولو تفنن منظروها في انتاج خطاب غير طائفي شكلا لكنه بالقطع لا يستقيم مع جوهر تكوينها الطائفي المأزوم.

إن مأزق القوى الداعية لاعتماد النسبية الشاملة أو تلك الداعية لنظام انتخابي مختلط يجمع بين النسبي والأكثري في مشروع واحد هو في كون مقاربتها للعملية الانتخابية لا تنطلق من واقع البحث عن سبل تعزيز المواطنة المتساوية العادلة بين اللبنانيين التي هي أساس أي اصلاح، إنما من زاوية تعزيز حصصها داخل الندوة النيابية بما يمكنها من المزيد من الاطباق على الحياة العامة، في حين أن برنامج كمال جنبلاط الاصلاحي هدف الى تحرير الانسان في لبنان من ربقة الطائفية والمذهبية وإلى قيام دولة عصرية نظامها السياسي مبني على المواطنة التي تضمن تكافؤ الفرص بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، دولة تحتكم إلى الدستور والقوانين في تسيير آلياتها بما يجعل من اللبنانيين مواطنين حقيقيين لا رعايا.

في ذكرى كمال جنبلاط الاربعين كم نحتاج الى فكره ونهجه وفلسفت، وإلى إعادة تعريفه للسياسة بوصفها أشرف الآداب اطلاقا وليست معبرا الى تكريس دولة المزارع والمصالح والمنافع، سياسة مؤداها دولة الكفاءة والجدارة والاستحقاق لا دولة الأزلام والمحاسيب وشذاذ الآفاق، دولة تتحقق فيها كرامة الانسان ولا يذل فيها مواطنوها على أبواب مستشفى أو على أعتاب زعيم طلبا لوظيفة أو خدمة أو حاجة.
إنه حلم كمال جنبلاط في التغيير والاصلاح الحقيقي، وكل الاشتراكيين والوطنيين عموما مؤتمنون على صيانة هذا الحلم، مناضلون في سبيل تحقيقه كي لا يضيع الوطن بين براثن اوهام مشاريع طوائفية مريضة متجلببة بعباءة الاصلاح والاصلاح منها براء.