أربعون سنة من الحداد! / بقلم إيمان ريدان

أتساءل بعد أربعين سنة، أين أنت فينا؟
أصارح نفسي وأذهب بعيداً.. في الذكريات..مذ كانت هامتك تطلّ حولنا في المعالم القريبة في الشوف.. في الطبيعة حيث كانت لك جولات.. وحيداً. رفيقك التواضع ووجه متأمل بشوش. ولا أدري مَن كان يفرح بالآخر أكثر؟ أأنت أم الفلاحون والمزارعون الذين يستبشرون بيومهم خيراً، حين يصادفونك.
أم أستذكرك في أحاديث الأهل والأصحاب، المتداولة بين البيوت بمحبة، قلّ أن نجدها لقائد آخر.. فهي عفوية تلقائية لا تُفرض، ولاتدعمها الأموال والمصالح والحسابات…فهذا (المعلّم) لا يشبهه أحد.. هو ترنيمة الفقراء، وتعويذة المحتاجين والمظلومين ، هو سندهم في هذا القصر المفتوحة أبوابه على صدق وأخلاق وجرأة ونظافة.ومنذ متى كانت أبواب القصور فرجَ الناس و”مشكى ضيمهم”؟ مذ كان فيها… (الرفيق كمال).
وتتوالى الصور وتكرّ سبحة الأيام المرصودة على حضورك ..حتى وقت الفجيعة والرحيل. فالغياب عام 77، كان أشد ّ حزناً وهولاً من أن يتحمّله المحبّون والطيبون ..أهلك وما أكثرهم أينما كان ..
أحاول أن أفهم لماذا أهلي يصرخون.. ولماذا سقط الخوف بسيفه، فقطع الكلام.. وتعلّقت النظرات في الفراغ، وكأنّنا انتقلنا إلى زمان ومكان مغيّب عن اللحظة الآنية.. انقطعت معها الجسور للعبور إلى الآمان والضوء والحياة.
كانت هناك حرب وطائفية وبشاعة، ولكن كان هناك كمال جنبلاط . كانت أمواج التهديدات والفتنة تتلاطم لتغرقنا، ولكن كان هناك الجبل نستند إليه، فنواجه العواصف والأنواء.. ولا نخاف.
البوصلة هو، والقلب الكبير يواكب نبضنا ولا يتركنا..كلماته، أفكاره، مبادئه الإنسانية  أينما كان، فكيف نخاف؟ ولكننا خفنا. فالليلة ظلماء ظلماء.. وبدرنا غاب. حتّى أنّنا في الأيام الأولى من مغادرته أرضَنا، فتّشنا عنه في السّماء، لم يبق كبير أو صغير من دون أن يعتقد أن صورة القمر في كلّ ليلة من آذار،  كانت تحمل معالم وجهه.
لهذا الحد  كانت الهيبة  تصنع العجائب.. تضاء الشّموع على الضريح ، ويلتفّ الجموع والمصلّون في محراب حضورك حتّى ساعات الليل المتقدّمة ، وكأنّ الجميع يحبّ أن يشاركك حتّى في صمتك العميق، وهم بقربك ..لا يغادرون، فهم الأوفياء.. للأوفى.
مضت أربعون سنة، وكنت تنادي بالتغيير إلى إنسانية أكثر إنسانية.. فسقطنا.وديمقراطية حقيقية تسمح بالتنوّع والرأي الحر.. فكُمّت أفواهنا، وأخذ الصوت الواحد يعلو ويطغى.وناديت بالحرّية فعلّقناها إلى أجل غير مسمّى، واستبدلناها بالفوضى والتشويه. أصررت على محاربة الفساد ، فدخل من كلّ باب وفاض في الطرقات..وامتلآنا .. وزكمت أنوفنا، فأغمضنا العيون ومشينا… وما من معالم، وما من وجهة..فإلى أين؟ وإلى متى؟
نسينا كتب “أدب الحياة، والحياة والنور، والديمقراطية الجديدة، وأحاديث عن الحرية، وتمنياتي لإنسان الغد، وثورة في عالم الإنسان، وربع قرن من النضال، ورسالتي العدالة الإنسانية، وفرح، وفيما يتعدّى الحرف، وفلسطين قضية شعب وتاريخ وطن، ووجه الحبيب، والعلاج بعشب القمح، والفلسفة واليوغا في بلاد الحكماء… نسينا كثيراً… كثيراً … فتهنا!
في موعدنا الأربعيني مع الذكرى…أضيء شمعة بخشوع وسكون، أقرّر أنّني سأحبّك أكثر فأفرح. سأفهم بماذا كنتَ أنت متقدّماً عنا بأشواط وأشواط  منذ سنوات بعيدة، فأشعر بأنّ الطريق آمن وجميل. سأتصفّح أفكارك المزروعة على الورق والمنابر وفي الدروب، علّها تنبت مستقبلاً أفضل .. فأتفاءل. وأقرّر أني سأخبر عنك ابنتيّ، فهما تعرفانك بالاسم فقط، وليس مَن هو هذا المعلّم الذي خطّ طريقاً عظيماً، بمعالم.. لم نتبعها جيداً، فنهتدي!
… وبعد أربعين سنة من الحداد …نرمي الأسود جانباً، نتماهى بألوان نرجس وأقحوان، نرحّب بربيع قيامتك.. فالحداد كان طويلاً.