الجنبلاطية ثقافة.. أنا جنبلاطي..

د. صلاح ابو الحسن

بعد 40 عاما على استشهادك.. تبقى انت المعلّم الحاضر أبدا.. والمستقبل الذي لا يموت.. أنت الحداثة.. انت النبع الذي لا ينضب.. والذين قتلوك هم الماضي البائد المنقرض..

وقبل ان يلتبس الأمر على أحد.. أنا في السياسة جنبلاطي من مدرسة المعلم كمال جنبلاط.. آمنت بها فكريا وثقافيا وسياسيا ولم أزل.. وآمنت بالحزب الذي اسسه مع نخبة من رجالات السياسة ومن المفكرين والمثقفين.. واليوم وبعد الهزال السياسي في لبنان والعالم أصبحت أكثر ايمانا وقناعة والتصاقا بهذه المدرسة.. ولهذا “أنا جنبلاطي”..

ابرز ما تربينا عليه، وعلى يديه اعتبار الانسان هو غاية اي نضال وأي عمل حزبي أو سياسي.. احترام الانسان هو الهدف والغاية.. وكان يرى ترابطا بين السياسة والاخلاق..

وكان يقول: “وُضعت العقائد والأيديولوجيات لأجل الانسان وترقيه المعنوي، ولم يخلق الانسان لأجل العقائد ولأجل اختبارها عليه”..

المدرسة الاهم بالنسبة لنا، كانت “ندوة الأربعاء” وكانت “البداية”.. التي كان يقيمها المعلم اسبوعيا، كما يدل عليها إسمها” تحت عنوان: “الجدلية واصولها اليونانية” حيث كان يعتبر ان اصول “الديالكتيك” يعود الى الفلسفة اليونانية القديمة والتي منها استقى كارل ماركس نظرياته.. ولذلك كان يقول: ان الجدلية بدأت في اليونان مع أرسطو وارسطوطاليس.. هذه الندوات تابعناها كتلامذة، واستمرت حوالي السنتين، وشكلت لنا بداية انطلاقة فكرية ومعرفية سليمة وصادقة ومحفزة للنضال والوعي والإدراك في كل المراحل التي تلتها..

بالطبع، نحن محظوظون اننا وُجدنا في عصره وتتلمذنا على يديه.. وغرفنا القليل من “معين” فكره وفلسفته.. وهو القادر أن يأخذك من “سببية” و”صُدفية” هذا الكون في كتابه “ثورة في عالم الإنسان” لينقلك فجأة ومن دون مقدمات الى “أدب الحياة”.. هذا الكتاب العميق  على بساطته.. والذي جاء يومها خارج سياق السياسة والسياسيين.. ولو كنا في دولة مكتملة “المواصفات لكان “ادب الحياة” يُدرّس اليوم في جامعتنا الوطنية ويدخل في منهاجنا الجامعي. هذا لو كنا…!!!..

ولأنه كان يستشرف الزمن الآتي هرب من السياسة الى الادب، وها نحن اليوم في زمن الإنحطاط والخواء والتلوث الفكري والسياسي وزمن التردي الأخلاقي.. فكتب في أدب الكلام وأدب المخاطبة وأدب السياسة وأدب الأكل وأدب الزيارة  وأدب الجلوس وفي كل جوانب “أدب الحياة”..

كمال جنبلاط، اختار الرحيل في الوقت المناسب، قبل أن يرى ويسمع ويلمس هذا الإنحطاط وهذا التردي الذي وصلنا اليه اليوم في السياسة والثقافة والأدب والفكر والإدارة والأخلاق..

 

ورحل قبل أن يشتم روائح الصفقات والقذارات وغسيل الأموال وغسيل المخدرات.. وغسيل الأفكار والمبادىء.. وقبل ان يرى “الداعشية” التي لوثت اكثر مذاهبنا وأدياننا واحزابنا وافكارنا وسياسيينا وجامعاتنا ومدارسنا وصحافتنا ومندياتنا.. فحسنا فعلت أن غادرتنا وفضلت، بملء إرادتك الحرّة الواعية، الحرية على رؤية هذا التلوث الفكري والسياسي..

في ايامك كنا في “السجن العربي الكبير” اليوم اضفنا اليه “السجن الفكري الكبير”.. الذي يجتاح العالم.. حيث باتت “الداعشية” والعنصرية والطائفية في كل زوايا وخبايا العقول..

يوم كتبت مقالتك الشهيرة “فيما يتعدى الماركسية”.. استهجن هذا الكلام انصار الأنظمة “التوتاليتارية”، وخاصة الشيوعيين الذين كانوا يرون ان الماركسية هي آخر المطاف الفكري.. شانهم شأن بعض الآحزاب المتأثرة يالفكر النازي والذين توقفوا عن استكمال نظرياتها الفكرية.. لأن الذي كتب مات.. ولا يجوز اضافة حرف واحد على ما كُتب.. وكأن بعد موت “الزعيم المفكّر” يتوقف الفكر ويتوقف الزمن.. ويأخذ العقل اجازته “الكهفية”..

لكن الأنظمة “التوتاليتارية”، التي تنبأ المعلم بسقوطها، اذا لم تتحول “الى ديمقراطيات سياسية ذات نظام حريات وشورى وتعدد في الأحزاب قبل سنة 1985”.. وقد صحّت تقديراته فسقط جدار برلين في العام 1989 ثم انهار الإتحاد السوفياتي.. ولكن هذه الأنظمة المنعتقة.. سرعان ما تحولت الى أنظمة داعمة ونصيرة للأنظمة الديكتاتورية المخابراتية في العالم العربي، وضد شعوبها الثائرة على سجونها وسجّانيها..

يا معلمي، اعذرني ان قلت لك ان كل الطرق اليوم في عالمنا مظلمة وقاتمة.. بتنا لا نرى الا العنصرية والتعصب والرايات السوداء والعتمة.. ولا نرى الا دروب الجنازات والمقابر.. ونرى ايضا دروب الباطل والظلم والدجل والرياء والخبث والمكابرة..

السجن العربي الكبير توسّع في عالمنا.. صار معمما.. والدولة باتت “دويلات” والجيش “جيوش” وبعضها يقاتل بالوكالة حيثما تدعو الضرورات الاقليمية بتكليف “الهي” وحصري.. وبعض او أكثر الارهاب خريج الغرب “الديمقراطي” والعالم الحر.. وبعضه خريج سجون الأنطمة الديكتاتورية.. نعم انها “خلطة” الحرية والديكتاتورية..

كان “المعلم” يقول: “لا أنوه بتفاهة الحكام وبلادة المسؤولين.. كأنه حكم على اللبنانيين أن يحكمهم دائما الجهال”.. اليوم يمكننا التعميم أكثر.. ولو كنت بيننا لقلت: “لا أنوه بتفاهة الحكام وبلادة المسؤولين.. كأنه حُكم على العالم أن يحكمه دائما الجهال”.. وكنت تقول: نحن سنصل الى يوم يحكمه “مجنون”.. قد يكبس “الزر” النووي.. فيدمّر العالم.. وما أكثر المجانين اليوم..

وللتذكير فقط، فان الجيش السوري دخل لبنان عام 1976، قبل يومين من وصول رئيس الوزراء “السوفياتي” ليونيد بريجنيف الى سوريا.. وهم كانوا يومها موافقين ضمنا على دخولهم.. فلم يرف لهم جفن يوم اغتيل كمال جنبلاط حامل “وسام لينين للسلام”..

يومها “الغزو السوري” للباان قال كمال جنبلاط: “لعل السوفيات لم يكونوا بالغي الرضى والإرتياح إزاء نزعتنا الديمقراطية القوية على صعيد المؤسسات السياسية.. كل دولة كبرى هي في النهاية أسيرة مصالحها القومية المباشرة.. والحق أنني لا أدري اذا كان السوفيات يتمنون حقا وصدقا ترسيخ الإشتراكية في المنطقة”..

اليوم، وبعد اربعين سنة تقريبا، ولسخرية القدر، يدخل الجيش الروسي – السوفياتي سابقا – في ايلول 2015، بصواريخه وطائراته وجيوشه الى سوريا لإنقاذ النظام الذي قتلك ويقتل ويشرّد ويهجّر شعبه.. وكان النظام وقتها على حافة السقوط.. فانتشله من “مزبلة” التاريخ..

في الذكرى الاربعين لاغتيال المعلم، نجدد العهد للرفيق وليد جنبلاط في وقت يحاول البعض اغتياله واغتيال الحزب سياسيا.. ونقول لهذا البعض ولصحافتهم الصفراء واقلامهم السوداء.. حذاري اللعب بالنار.. وحذاري الاستمرار في التحريض.. واللعب على الأوتار المذهبية والطائفية.. فالجبل محصّن بشبابه ورجالاته.. والمختارة عصية على كل الطامعين والحاقدين والحالمين بتقويض تاريخها الوطني والعربي.. ويبقى الجبل ميزان وبوصلة السياسة في لبنان..

المختارة كانت وستبقى، شاء من شاء وابى من أبى، “دارا” للمسيحيين قبل الدروز ودارا لكل الوطنيين والعروبيين.. وملاذا للمضطهدين اللبنانيين والعرب..

والمختارة كانت الداعمة للحزب عبر “مؤسسة وليد جنبلاط للدراسات الجامعية” وساهمت بتعليم عشرات الآلاف في الجامعات اللبنانية وغير اللبتانية من مختلف المناطق والمذاهب..

والمختارة شيدت المستشفيات والمستوصفات والمراكز الطبية او ساهمت بدعمها..

والمختارة ساهمت او تكفلت ببناء بيوت القرى أو الخلايا العامة في البلدات من الجبل الى راشيا والبقاع وحاصبيا..

والمختارة حمت وحفظت الايقونات والتراث من دير المخلص الى سنديانة رشميا.. وحفظت التنوع وحمت الوحدة الوطنية في الجبل وفي لبنان..

والمختارة اقامت ومولت ورعت وشرّعت “محمية ارز الشوف” وهي من اكبر المحميات في لبنان، وحمت البيئة في وقت كانت المدافع هي اللغة الدارجة..

والمختارة كانت ملاذا للبنانيين الذين اضطهدوا ايام الوصاية السورية من قبل الجهاز الامني اللبناني – السوري المشترك.. ولا شك انهم يتذكرون تلك الايام العصيبة.. لكن الصغار والجاهلين للتاريخ.. لا يعرفون او لا يريدون ان يعرفوا، وربما لا يتذكرون تلك المحطات الوطنية.. كانوا يومها حديثي السن ولا يزالون حديثي السياسة..

والمختارة كانت المحطة الوطنية يوم شهدت المصالحة التاريخية برعاية البطريرك مار نصرالله يطرس صفير والزعيم الوطني الكبير وليد جنبلاط.. ويومها ايضا كان هؤلاء “حديثي” السياسة..

والمختارة شهدت ايضا الزيارة التاريخية للبطريرك بشارة بطرس الراعي لتدشين كنيسة المختارة التي رممها وليد جنبلاط..

والمختارة كانت “المضافة” العربية لكل المضطهدين من قبل انظمتهم المخابراتية الديكتاتورية.. فكانت دارا للاجئين السياسيين..

هذا غيث من فيض المححطات السياسية والوطنية والعربية والعالمية من عهد الست نظيرة وكمال جنبلاط ووليد جنبلاط الى تيمور الى ما بعد تيمور..

ليعلم الجميع ان المختارة ما كانت يوما ولن تكون مستقبلا قصرا لآل جنبلاط فحسب، بل هي “دار” يتقاسمها مع آل جنبلاط والموحدين الدروز، كل الوطنيين اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب والمشارب و”دار” لكل العروبيين.. ومنها انطلقت الوحدة الوطنية وانطلقت “المشاركة” وانطلق الجبل ولبنان وانطلقت العروبة.. إسألوا الأقدمين..

ومن يريد تغيير الخريطة السياسية فهو يجهل تاريخ لبنان.. ومن يعتقد ان التاريخ بدأ يوم ولادته فهو حتما جاهل.. والجهل لا علاج له..

يجب العودة الى قراءة كمال جنبلاط من جديد، خاصة من الرفاق الحزبيين، والمناصرين والمؤيدين ومن كل الأصدقاء، والعمل على إبراز النخبة السياسية. فالحزب التقدمي الإشتراكي أراده كمال جنبلاط “حزب النخبة” فلا أحزاب سياسية ولا حياة سياسية من دون النخبة..

ولذلك، انا جنبلاطي.. والجنبلاطية مدرسة فكرية وثقافية وفلسفة سياسية ووطنية وعربية.. وهذه المدرسة ليست عابرة سبيل.. فهي متجذرة وراسخة في التاريخ الوطني والعربي.. وفي التاريخ الثقافي والسياسي.. وكثيرة هي المدارس التي تساقطت عبر التاريخ.. وبقيت مدرسة المختارة..

“مختارة” وليد وتيمور جنبلاط ليست بحاجة لتأكيد ثوابتها يوم 19 آذار.. انما هو يوم الحجيج  وفاء لرمزية “المختارة” الحريصة على الانفتاح والتنوع والشراكة. والوفاء للمبادىء والقيم.. سيعكسه هذا الزحف الى “الدار” دار الحرية دار لبنان ودار العرب ودار العالم الحر.. وليؤكدوا بصوت واحد: العهد هو العهد والمصالحة الوطنية من هنا انطلقت ولن يعكرها الطفوليون.

اقرأ أيضاً بقلم د. صلاح ابو الحسن

“الدروز” الى أين؟؟!!

هل “هزة” حماة وحلب تُبدل قواعد اللعبة

الى رفاقنا وأهلنا وأصدقائنا في المتن الأعلى “تجربتكم مع هادي سبقت نيابته”

ترامب ومصير الإنتخابات

الناخب بين “الحاصل” و”المحصول”

قانون الإنتخاب “الإلغائي” و”شفافية” التزوير..

لا تصدّقوا وعود الإنتخابات

لا تستخفوا بالمعترضين

بعد الغوطة.. الإرهاب أرحم

ولماذا الإنتخابات؟!

انقلب باسيل على تفاهم مار مخايل.. وقضي الأمر!!

هكذا صهر يُعفي العهد من الأعداء

مصائر الديكتاتوريات متشابهة!

بين نداء الحريري ونداء “صاحب الزمان”!!

ما أحوجنا اليك

وأخيرا… “طفح الكيل”!

“كأنه حُكم على اللبنانيين أن يحكمهم دائما الجهال”..

رسالتي الى الرفيق تيمور

إنتصار “الأوهام” الكاذبة!

صنّاع الإرهاب هم صنّاع تقسيم سوريا!