العالم العربي والأسلوب العسكري في السياسة / بقلم كمال جنبلاط

صحيح ان الكثير من الدول العربية قد تحررت من الحكم العسكري المباشر، الا ان تداعيات تلك الحقبة لا تزال ماثلة امامنا اليوم، وقد لا تكون التيارات المتطرفة التي تعيث فسادا في العالم العربي الا وليدة لعهود الظلم والطغيان التي مرت بها الشعوب العربية طوال القرن الماضي، ولا تزال بعضها خاضعة لحكم العسكر الى يومنا هذا.

ومن هذا المنطق، ترى “الانباء” انه من المفيد اعادة نشر شذرات من فكر المعلم الشهيد كمال جنبلاط وقراءته لواقع العالم العربي في ظل الاسلوب العسكري في السياسة، وهذا ما قاله في منتصف القرن الماضي:

012

إن العمل الثوري العنفي هو امتداد وتصعيد للعمل السياسي العادي المباشر. والعكس ليس هو صحيح فعلينا في العالم العربي ان نعود إلى مستوى الشعوب التي تتكوّن منها الأمة العربية فنأخذ بمبدأ وزمام النهج السياسي وتطوّره ونتقنه ونعتمد عليه أساساً وجوهراً ونعود بهذه الشعوي إلى ممارسة الحياة الديمقراطية السياسية وأساليب السياسة المتنوّعة في فعاليتها. وإن نحن لم نصب الهدف ولم يتوفر لنا الوصول والسيطرة على الحكم، ففي الحقيقة تكون الظروف الموضوعية الاجتماعية والاقتصادية لم تنضج بعد لمثل ذلك، أو أننا لم نقم بما يتوجّب علينا من دعوة وتنظيم واستقطاب وجهد في مجتمعنا لأجل توفير النجاح للمبادىء التي نقول بها.

فكلّ انقلاب سياسي أو عسكري لا يرتبط مباشرة بإرادة وجهد وفعل الجماهير الشعبية لا يمكن مهما طال به الزمن، أن يعبّر في النهاية عن الأماني والمطالب الحقيقية للشعب، بل تظلّ الانقلابات والتبديلات تترى في عل والناس في همومهم وترقباتهم في واد آخر،لأنّ الثورة- أي لون من ألوان الثورة- المتجسدة بإرادة سياسية أو عسكرية، عند عدم وجود جهاز سياسي لتمكين الشعب من التعبير عن مطالبه وتطوير حركة نهجه، تظلّ الثورة بعيدة عن الناس أو تجري في مستوى لا يتم فيه التفاعل والتشابك والتداخل بين من يهمهم الأمر مباشرة، أي جمهور الناس، وبين الذين يدّعون التحدّث باسم هذا الجمهور.

طبعاً إنّ أشكال الديمقراطية السياسية البرلمانية التي مارسناها في السابق والتي نقلناها أحياناً حرفاً حرفاً عن بعض الدول الغربية، كما نقلنا تماماً فيما بعد حرفاً حرفاً إلى بعض الإيديولوجيات، والأساليب التي قادتنا إلى حيث نحن. إنّ أشكال هذه الديمقراطية السياسية البرلمانية قد تكون بحاجة إلى تعديل كبير للجمع بين روح المسؤولية وضرورة الحرية، بين نظام الشورى والمشاركة الشعبية وضرورة إبراز النخبة الحقيقية في المجتمع وتخويل القيادة السياسية ممارسة أوسع صلاحية ممكنة في حقل التنفيذ والتخطيط. فظروف العلم والتطوّر تفرض في عصرنا ومجتمعنا نظاماً سياسياً آخر يجمع في فعاليته بين إيجابية التخطيط واستمراره وحرية المبادرة الشخصية والحفاظ على حقوق الإنسان الأساسية في مقابل تفهّمه وممارسته لواجباته الاجتماعية.

قد تتحمل الجماعات أنظمة من التضييق الفردي والكبت الجماعي لفترات غير طويلة من الزمن، إذا ما تفهمت ضرورة تقييد بعض معالم حريتها في التصرّف الفردي والجماعي. ولكن لا بدّ لهذه الأنظمة من أن تزول، وأن تستبدل بأنظمة تحقق الحرية المسؤولة للإنسان في المجتمع. لأن الحرية في النهاية هي من جوهر العقل البشري ومن أصالة تكوين الإنسان ونزعته الأساسية عبر تطوّر الحياة من الجماد إلى شرفات المعاينة الخلقيّة والمعنوية والروحية.

image

إن تحقيق الديمقراطية الإجتماعية والإقتصادية يفرض حكماً تحقيق لون متطور وسليم من الديمقراطية السياسية. فعلينا في العالم العربي أن ننظر إلى الأمور على حقيقتها، وأن نعود فنعلن ثقتنا بالعمل السياسي والنهج السياسي للمواطن الواعي، ونعيد بلداتنا إلى كنف دستور متطوّر، تستطيع من خلاله الجماعة أن تمارس حريتها، دون أن تسيء إلى حقوق الآخرين، وإلى تطلبات الرقي المعنوي والفضيلة في المجتمع.

إن المادية الغربية التي سادت مع انطلاقة العلم وإيمان العقل البشري به بشكل مطلق غير واع لتطلعاته الروحية الأخيرة في نزعة كشف حقيقة الوجود وبالتالي حقيقة الإنسان، أن هذه الحضارة المادية قد ولّدت في الغرب- على حد تعبير كارل ماكس- الديمقراطية الفوضوية البرلمانية كم جهة والأنظمة الكليّة الجماعية من جهة أُخرى.

كنا ولا نزال نقول في الحزب التقدمي الإشتراكي بضرورة الجمع والتأليف بين أفضل ما في هذين الاتجاهين من التطوير العملي للمجتمع، لأن ما من اتجاه يمكن أن يستمر وحيداً منفرداً عن الإتجاه الآخر. وهذه الغربية وبين النزعة الاجتماعية الأصلية في النظرة الكلية للإنسان في التجربة الماركسية، وحتى الفاشستية على السواء.

ففي هذا المجال من الرؤيا والتصور للواقع التراثي والعملي، ولقضية تطوّر الإنسان، ترانا في هذا المستوى المبدئي المحض نتعدّى التجربات الرأسمالية والتجربات الكلية الجماعية المقابلة لها، أي نتعدى بالتالي مفهوم اليمين واليسار في معناه السطحي الضيّق وفي تناقضاته المرحلية.

يبقى بعد هذا أن نوضح بأن النشاط العملي للفكرة في حقل التناقضات القائمة بين الجمود الرجعي والتحرّك اليساري، لا بدّ له أن يصطبغ في مجال التناقضات السياسية والاجتماعية باللون اليساري المرحلي المؤقت، هذا اللون الذي تتعداه في الواقع التقدمية الإشتراكية من الوجهة المبدئية، لأنها تحاول أن تستخلص أفضل وآخر ما في الاتجاهين الكبيرين، وأن تؤلف بينهما وأن تتعداهما في هذا التأليف الجامع، لما يتناسب في النهاية مع نزعات الإنسان الطبيعية الحقيقية. إذ يجب أن ندرك بوضوح أن كل نهج أو مسلك أو مذهب أو نظام يتعارض مع هذه النزعات الإنسانية الطبيعية، مقضي عليه بأن يتبدل وفقها أو أن ينهار. لأن الإنسان بما يحوي من حقائق تكوّن جوهره المشترك، هو العنصر الرئيسي في تكوين المجتمع والتراث والاقتصاد والحضارة ومفهوم الإنسان في جيل معيّن. فالإنسان في هذا المعنى الرفيع الحقيقي هو أفضل رأسمال على وجه الأرض، لأنه هو الرأسمال الحي الفاعل باستمرار والذي ينعكس في الوجود وينعكس الوجود بدوره فيه، لأن هذا الوجود الظاهر والباطن جزء منه، وهو بدوره جزء من هذا الوجود. فالوحدة في هذا المرتقى- وحدة أصالة الوجود- هي الحقيقة التي تتعدى جميع النتاقضات والتي تعود جميع التناقضات للإنصهار فيها.

الأسلوب العسكري في السياسة هو أسلوب محض عنفي ويرتكز معظم الأحيان إلى مقومات ونظرات بدائية حرفية ضيقة ناجمة عن بعض الأيديولوجيات الفقيرة، في ما انعكست فيه كثير من النفسيات العربية غير المتفهمة لحقيقة هذه الأيديولوجيات ولحقيقة تطوّر الكون والحياة عبر الإنسان التاريخي. ولذا فإن هذا الأسلوب العسكري، هو في جوهره غير صالح في النهاية للقيام بواجب تحقيق المبادئ التي قد تكون سليمة بنهج سليم، ووفق معطيات الواقع الإنساني الغني بتراثه. وذلك لأن النهج العسكري قد لا ينظر إلى الأشياء إلا من زاوية ضيقة أو منحرفة، قد تحجب رؤيته عن الغنى الشامل للطبيعة البشرية وعن بعض الأجزاء الاخرى للحقيقة الإنسانية. العودة إلى النظام الديمقراطي السياسي واجب من واجبات الإنسان العربي المعاصر، وهي في الواقع إحدى الاتجاهات المفروضة للتغلب على النكسة.

هذا ونحن نتمنى في كل حال لشعب العراق العربي الشقيق التوفيق في جميع توجهاته، لأنه دعامة كبرى من دعائم هذا الوطن العربي ومصدر أساسي لقوته النامية، ومعقل كبير للوطنية وللقوى التي نحن بأمسّ الحاجة إليها في مواجهتنا اليوم للعدوان الإسرائيلي.

“الأنباء” عن كتاب: “المرتكزات الفكرية والدينية للعالم العربي”، “الدار التقدميّة”، ص 165-168.