في “الانباء” … لهذا لا يمكن إلغاء المختارة ودورها!

ثمة من لا يقرأ التاريخ، أو يخطئ قراءته. فمن يسبق بأفكاره التاريخ ليس له أكثر الأحيان سوى المقصلة كما يقول الشهيد كمال جنبلاط. ولذلك فإن أضغاث الأحلام التي تراود الكثير من القوى السياسية الصاعدة، لا تبدو مستندة إلى قراءة واقعية للأحداث التاريخية، وتريد القفز عليها وعلى وقائعها. قصة المختارة مع حروب الإلغاء مديدة. تعود إلى مئات السنوات. حقبات عديدة بين عرب وعجم وسلجوقيين، جميعهم أرادوا إلغاء العاصمة السياسية لجبل لبنان، وفشلوا. وكما كل عنوان أو مبدأ تصلح قراءته بشكل متناقض، فهناك من يصر على كتابة التاريخ بحدّ السيف والسكين، لأن بالنسبة إليه غالباً ما يكون الدخول في هذا التاريخ من بوابة العنف أو الإلغاء.

هذه القراءة الخاطئة للتاريخ، تدفع البعض إلى التغاضي عن الإرث السياسي الذي تشكله المختارة، لكنها لا تثنيهم عن تكرار تجارب الماضي، التي تحوّلت عند هذا البعض إلى حمل شوك ترزح تحته. وكل من يريد اليوم إلغاء الدور السياسي للمختارة من بوابة قانون الإنتخاب، والإنتقاص منها بنائب أو بأكثر، فهنا طامة القراءة الخاطئة. وهي تنجم عن ضعف تبصّر، تحيد عن الإبحار في الماضي لاستكشاف المستقبل.

تمثّل المختارة تجذّراً أساسياً في الكيانية اللبنانية، ولذلك كانت عصية على كل حروب الإلغاء، فعمر الدار أكثر من 400 عام، شكّلت على امتدادها، صرحاً لاستقبال الناس والإستجابة إلى همومهم ومطالبهم، وهو تقليد لا يزال مستمراً إلى اليوم. وكما لا يقتصر امتداد جغرافيا المختارة على الشوف وجبل لبنان فقط، وهذا ما يتردد على ألسنة اهل الجبال في توصيفهم لآل جنبلاط وحديثهم عن أملاكهم مختصرين اتساعها بمقولة “من مرمى الثلج لفقش الموج”. وكذلك لا يختصر الدور السياسي لهذه الدار على الشوف أو الجبل، ولطالما كان لها دور بارز في التحولات السياسية في المنطقة العربية ككل.

ما يحاول البعض جرّ المختارة إليه في محاولات إلغائية جديدة، كانت شهدته الدار في تاريخ لبنان الحديث أيضاً، وتحديداً في إنتخابات العام 1957، وحينها أقر قانون إنتخابي يقسم الدوائر بشكل مفصّل على قياس بعض الأفرقاء، وبشكل يقضي على النسيج الإجتماعي في الجبل، وصحيح أن في تلك الفترة تم اسقاط كمال جنبلاط، في الشوف، إلا أن ذلك لم يستطع إلغاء الدور السياسي، وبعد سنة بالتحديد حصلت ثوة العام 1958، وتوسع دور جنبلاط السياسي ليمتد إلى كل الأراضي اللبنانية، ناهيك عن توسع دوره وعلاقاته العربية. واليوم إلقاء نظرة بسيطة على دور حزب الوطنيين الأحرار وآل شمعون مقارنة مع دور المختارة وآل جنبلاط كفيلة بإعطاء إجابة عن واقع الحال، ومبدأ إستمرارية التاريخ. وكذلك في حرب البشيرين حين حاول المير بشير الشهابي الغاء المختارة ولم يفلح، ويظهر أن كل من حاول إلغاء هذا التاريخ الغى نفسه في النّتيجة، والدليل ان كل هؤلاء اصبحوا اما في دفاتر التاريخ او تراجع دورهم الى حد الاضمحلال.

تشكل المختارة شبكة علاقات عربية ودولية الى جانب دورها في الاشتراكية الدولية، وهذا ما تستند اليه مصادر للاستدلال على عمق التأثير لجنبلاط على الداخل انطلاقاً من امتداد حقبة تاريخية من العلاقات مع الدول. ودورها العميق في الصراع العربي الإسرائيلي أدى مفاعيله للحفاظ على فلسطين والقضية، فلو وافق كما جنبلاط ومن بعده وليد على الدخول في تحالف الأقليات وبناء دول وكانتونات على أساس مذهبي لكان جرى استنساخ كيانات عنصرية وطائفية تشبه الكيان الإسرائيلي وتعزز وجوده، ولذلك كان إصرار جنبلاط على التنوع والحفاظ عليه عامل أساسي للحفاظ على القضية الفلسطينية ولمواجهة العنصرية الإسرائيلية، ولذلك هو يتمسك بالتنوع داخل الحزب وداخل اللقاء الديمقراطي عبر ترشيح نواب من غير الدروز.

لا يزال جنبلاط صامداً على مواقفه، يوصل رسائله بطريقة غير مباشرة. لا يريد الاصطدام بأي طرف. والجميع يريد ارضاءه، والوقوف عند ارادته، وهو يمضي الى ابعد من ذلك، كي لا يكون مطواعاً او عرضة لأي التزاز سياسي.

صحيح ان حزب الله هو القوة الكبرى في لبنان، وينظر اليه البعض على أنه “بيّ الكل”. وبظل هذا الدور يصرّ الحزب على العلاقة الجيدة بالحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة جنبلاط، وهنا لا بد من الاشارة الى حرص الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله على جنبلاط والرسائل الايجابية التي ارسلها تجاهه، وهي تنبع من ادراك عميق لحجم ودور جنبلاط وتأثيره في السياسة اللبنانية وحتى الاقليمية. وهذه السياسة التي نجح جنبلاط منذ معالجة تداعيات وآثار السابع من أيار الى اليوم، بالمزج بين الخصوم، واتخاذ المواقف الوسطية التي توائم بين التناقضات حرصاً على الوحدة الداخلية.

كما ينبع حرص حزب الله والجميع على جنبلاط ودوره لأنه اولاً صاحب ضمانة على الساحة الوطنية، وثانياً لأنه الوحيد القادر على الامساك بقرار طائفته الملتزمة كل الالتزام بخياراته وتوجهاته، وهذا ما يعلمه الحزب علم اليقين على الرغم من كل الابواق التي تخرج من هنا وهناك. ومثلاً اذا ما واجه حزب الله اي تطورات دراماتيكية مستقبلية في المنطقة، فهو لا يمكن ان يكون في موقع ضعف في الداخل، ومعروفة مواقف جنبلاط في هذا الصدد وخاصة في عدوان تموز وفي غمرة الانقسام السياسي، في حينها تعالى جنبلاط على كل الحسابات السياسية الداخلية وكان اول من اعلن انتصار الحزب. هذا الموقف ليس تفصيلاً بالنسبة الى الحزب، وهو يستذكره في هذه المرحلة من المتغيرات الاقليمية والدولية.

كما حزب الله، كذلك الأمر بالنسبة الى تيار المستقبل وحركة امل، ولذلك الجميع حريص على موقع ودور هذا الرجل للحفاظ على الكيان اللبناني والتوازنات الداخلية. ولذلك فإن إلغاء المختارة او الدور السياسي لجنبلاط، فيمثّل إلغاءاً للبنان وكيانه وصيغته.

ربيع سرجون – الانباء