النظام الدولي: نحو نهاية مفهوم “الغرب”

د. خطار أبودياب (العرب)

كما يتنوع ‘الشرق’ جغرافيا وسياسيا وحضاريا ويختلف من أدناه إلى أقصاه، يرتسم في الأفق تنوع مماثل في ‘الغرب’ بمعناه الأوسع، مع احتمال تحلل الرابطة الغربية بجناحيها الأميركي والأوروبي.

يهز إعصار الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، الغرب، ويهدد وحدة موقفه ويمكن أن تقود هذه السياسة الأميركية في حال ترسيخها إلى نهاية مصطلح “الغرب” من قاموس العلاقات السياسية الدولية.

من الترحيب بالبريكست والتأييد الضمني لإضعاف أو انفراط عقد الاتحاد الأوروبي، يخشى الغرب الأوروبي من التغريد المنفرد للغرب الأميركي الذي لم يتردد رئيسه في التشكيك بحلف شمال الأطلسي، دعامة الغرب العسكرية.

وإذا كان التحدّيان الصيني والكوري الشمالي يحفظان، مرحليا، الصلة القوية لواشنطن مع سيول وطوكيو اللتين تدوران في فلك الغرب، لا يتعامل سيد البيت الأبيض الجديد بلباقة مع أستراليا الركن الآخر للغرب في المحيط الهادي.

هكذا تتجمع العناصر التي تضع مصير الغرب على المحك، وأبرزها السلوك الأميركي والضعف الأوروبي، بالإضافة إلى تصدع العولمة واضطراب النظام الدولي.

كما يتنوع “الشرق” جغرافيا وسياسيا وحضاريا ويختلف من أدناه إلى أقصاه، يرتسم في الأفق تنوع مماثل في “الغرب” بمعناه الأوسع، مع احتمال تحلل الرابطة الغربية بجناحيها الأميركي والأوروبي.

وأكبر دليل على حالة القلق والمخاوف السائدة عند الأوروبيين ما ورد على لسان الدبلوماسي الألماني فولفجانج إشينجر “إن وصول ترامب إلى السلطة يعني نهاية الغرب. ستحمل الولايات المتحدة راية هذه النهاية، وقد تتبعها في ذلك دول أخرى”. ولذلك طالب إشينجر أوروبا بتعويض تلك الخسارة “حتى لا يضيع الغرب بالكامل كنموذج وقدوة لحقوق الإنسان والحرية والكرامة ودور الفرد”.

ويرتدي هذا الكلام أهميته لأن إشينجر هو رئيس مؤتمر ميونيخ الدولي للأمن الذي تنعقد دورته الثالثة والخمسون بين 17 و19 فبراير 2017، تحت شعار “بعد الغرب، ما بعد النظام الدولي”.

بحضور أكثر من 500 مشارك في مؤتمر ميونيخ الأمني الـ53 (أبرزهم نائب الرئيس الأميركي الجديد مايك بينس والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل) يركز المؤتمر على مقاربة عالم تغيرت ملامحه بصفة كبيرة مقارنة مع معطيات مؤتمر 2016، إذ أننا أمام نقلة نوعية بعد نجاح الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتمركز دونالد ترامب كرئيس أميركي، وعلامات الاستفهام حيال التعاون القائم بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، والحروب التجارية التي تلوح في الأفق مع العودة إلى نغمات الانعزال والحمائية، كما أن النقاش حول أهلية ودور وميزانية حلف شمال الأطلسي، وأسلوب ترامب غير الواضح في التعامل مع روسيا، يثيران مخاوف جدية في الكثير من بلدان أوروبا، ويصل الأمر بالبعض إلى التساؤل عن منظومة القيم الغربية وصلاحيتها النظرية والعملية.

للتذكير أنه في موازاة ملتقى دافوس للنخبة الاقتصادية، أصبح مؤتمر ميونيخ موعدا سنويا هاما للقاء النخب السياسية والأمنية حول العالم، علما أنه انطلق في العام 1963 كلقاء غير رسمي بين شركاء أميركيين وألمان.

وسيكون من الصعب أن تتضح كل صورة المرحلة الآتية من خلال مناقشات المؤتمر، لأن الخطاب المنتظر لنائب الرئيس الأميركي مايك بينس عن مبادئ السياسة الأميركية وتوضيح نهج الإدارة الجديدة لن يبدد الشكوك حول الإصرار الترامبي على استثنائية التفرد الأميركي، ولأن وحدة المنظومة الغربية والأوروبية ستتوقف كذلك على انتخابات مصيرية تشهدها أوروبا الغربية هذا العام في فرنسا وهولندا وألمانيا بشكل خاص لأنه في مواجهة إعصار ترامب، تحاول أنجيلا ميركل البروز بمظهر “الثقل الموازي” والممثلة على مستوى العالم لنهج ديمقراطي منفتح وليبرالي.

بيد أن هذا النموذج يواجه ضغوطا داخل أوروبا من قبل الحركات القومية والشعوبية مثل حزب البديل لألمانيا الذي ربما يدخل البوندستاغ. وحتى في الانتخابات المزمعة في فرنسا وهولندا يمكن أن يحرز الشعبويون نجاحات تطالب بالخروج من الاتحاد الأوروبي.

ولذا ترتبط حيوية الغرب الأوروبي وموقعه على الساحة الدولية بقدرته على الدفاع عن نفسه إزاء التوجهات الأميركية الجديدة، ولا يمكن ذلك من دون إعادة بلورة المشروع الأوروبي بصيغة أكثر تماسكا بعد الطلاق مع إنكلترا.

ولا يمكن للمحور الفرنسي الألماني، الترويج للقيمة المضافة للاندماج الأوروبي من دون المزيد من التنسيق الدفاعي والإنفاق العسكري لمن يرغب ويتمكن من مجمل أعضاء الاتحاد الأوروبي.

تشكل “الغرب” بأبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية بشكل متدرج عبر قرون. وكانت اللحظة المفصلية في سنة 1492 وهي سنة اكتشاف القارة الأميركية وسقوط الأندلس وحينها خسر الشرق موقعه الدولي المميز في قلب العالم، مع انتقال مركز الثقل في النظام الدولي من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الأطلسي. في مواجهة صعود الصين ومنظومة “البريكس” تتراجع مجموعة الدول الصناعية السبع التي يسيطر عليها الغرب، لصالح مجموعة العشرين الأكثر تمثيلية لميزان القوى الاقتصادي العالمي.

هذه الانتكاسة في العلاقات الأطلسية ليست مجرد نتاج لنهج ترامب، إذ أن حرب العراق عام 2003 شهدت انقساما غربيا نتيجة وقوف فرنسا وألمانيا ضد الثنائي الأميركي-البريطاني.

والأدهى يتمثل اليوم في التخبط في النظام العالمي وتصدع الشمولية الليبرالية وتضييع منظومة القيم والتنوع الإنساني، مما حدا بالفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري للتفتيش عن الخلفية الثقافية والحضارية لتراجع الغرب، ووصف ذلك بالانحطاط من دون تردد.