رعب العائدين وحتمية المواجهة

عرفان نظام الدين (الحياة)

هل ستتكرر محنة العائدين من أفغانستان مرة أخرى؟ وهل ستكون أكثر شمولية وخطورة مع التجارب الدموية التي شهدتها المنطقة العربية، من العراق إلى سورية واليمن وليبيا مروراً بدول عربية وأجنبية أخرى عانت الأمرين من هذه الآفة الكريهة؟

يمكن التأكيد، من دون تردد، أن هذا الخطر قادم لا محالة، وما على أصحاب الحل والربط إلا أن يستعدوا للمواجهة الحتمية له والحد من أضراره، لأن الاستسلام واللامبالاة وعدم الاستعداد ستقود إلى مصير واحد، وهو الدمار الشامل وتدفق أنهر من الدماء الزكية.

ومهما كانت أخطار ظاهرة العائدين من أفغانستان عنيفة ومؤلمة، فإنها لا تشكل إلا عيّنة بسيطة مما يمكن أن يحدث في الحالة الراهنة، لكثرة العائدين من ميادين الحروب، وهم على أعلى درجة من التدريب والتصميم على ارتكاب المجازر العشوائية ونشر الفوضى والذعر في العالم كله.

ففي تجربة أفغانستان، صنعت الولايات المتحدة الوحش (فرانكنشتاين) لمحاربة الاحتلال السوفياتي في مطلع ثمانينات القرن العشرين، بزعم دعم «المجاهدين» الذين تشكلوا من مجموعات أفغانية لتنضم إليهم مجموعات من المتطوعين العرب، إلى أن نجحت الخطة بإجبار الاتحاد السوفياتي على الانسحاب، وبالتالي إلى الانهيار وسقوط الشيوعية وتفكك المعسكر الشرقي واقتسام تركته.

وعندما تحققت مآرب صانعي الوحش، تخلوا عن المجاهدين الذين صدّقوا أنهم هزموا الكفار والملحدين الشيوعيين بقدراتهم، من دون أن يدركوا أنهم كانوا أدوات تحارب بالوكالة عن أعداء آخرين اعترفوا بأنفسهم أنهم دعموهم، لأن الولايات المتحدة تحركت لمنع سيطرة السوفيات على آسيا الوسطى ومنع امتدادها على طول حدود مناطق النفوذ المفترض والمقررة سلفاً كخطة لنهب الثروات.

هذا التخلي المشين ولّد نقمة لدى المجاهدين وغيرهم، فعاد بعضهم إلى ديارهم لينفذوا عمليات انتحارية بتوجيه من «القاعدة» التي تأسست بقيادة أسامة بن لادن، ثم حصل ما حصل من تداعيات خطيرة جراء تفجيرات نيويورك وواشنطن.

وشمّاعة «القاعدة» التي استخدمت لمحاربة الإسلام والمسلمين واتسعت مع الزمن لتولد قواعد أخرى تعمل في شكل منفرد، وأخطرها تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) الذي انطلق من الموصل بقوة وانتشر في عدد من الدول العربية والأجنبية.

من هنا، تتكون هذه الأيام حالات رعب من أخطار قادمة مع جماعات العائدين إلى ديارهم من سورية والعراق واليمن وليبيا، وهم يعدون بالآلاف ويتنقلون في دول عربية وأجنبية ويحملون جنسياتها إن لم يكونوا مواطنين أصليين.

وللرعب مبررات كثيرة، أبرزها أن من تابع عمليات «القاعدة» التي تكاد تنحسر عموماً وتزيد ضعفاً بعد مقتل بن لادن وتسلم أيمن الظواهري قيادتها ليحل محلها «داعش» في شكل أكثر تنظيماً وعنفاً وإمكانات هائلة وخبرة متقدمة وإعلام عصري ودعم سري من قوى متعددة الغايات والمشارب والهويات، فـ «القاعدة» لم تقم إلا بأعمال محدودة وقليلة كان أبرزها «غزوة» نيويورك وواشنطن في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، لكنها لا تقاس بعمليات «داعش» وامتداد نفوذه وتكرار عملياته العشوائية التي استهدفت المدنيين ولجأ «داعش» إلى أساليب متطورة وشن حرب نظامية في بعض الأحيان وحروب عصابات في أحيان أخرى، والسيطرة على مساحات واسعة من الأراضي والثروات. كما أن «داعش» ضم إلى صفوفه عشرات الآلاف من مختلف الجنسيات يتمتعون بخبرات قتالية، واستخدم وسائل التواصل الاجتماعي لبث دعايته في شكل دقيق ومنظم، ووسّع مجال عملياته لتشمل مختلف الدول العربية والأجنبية، والباقي معروف والآتي أعظم وأخطر.

ومن هنا، يأتي الإلحاح للاستعداد للمواجهة الحتمية وعدم الاكتفاء بالنظريات والمؤتمرات والظواهر الصوتية بعد إحكام الحصار على مناطق «داعش» واكتمال خطط الحسم الذي يتطلب وقتاً طويلاً وبدء العد العكسي لتحريرها والقضاء على هذه الظاهرة المدمرة وهروب آلاف المقاتلين ليعيدوا تنظيم صفوفهم والاستعداد لشن عمليات قد تأخذ طابعاً أشد عنفاً، نظراً إلى حجم التدريب العسكري والشحن العقائدي والنفسي والرغبة بالثأر.

ويخطئ من يظن أن الحل العسكري والأمني الكفيل بتحقيق الأهداف وإنهاء هذه الظاهرة المدمرة للدول والمجتمعات والأفراد، ومعها الأمن والاستقرار والاقتصاد ووضع حد للفتن التي تُعد الحوادث الأخيرة خلفية لها.

ومع أن الحسم سيطول، وفق تقديرات الخبراء وكبار القادة العسكريين الذين يشرفون على معركة تحرير الموصل، ومن بعدها الرقة، المقر الرسمي لـ «داعش» وقائده أبو بكر البغدادي.

ومع هذا، يجب عدم التقليل من الحل العسكري الذي كان سيؤتي ثماره ويمنع الأخطار لو لم يتأخر الحسم لغايات في أنفس «يعاقيب» هذا الزمان. إلا أن الحلول الرديفة يجب أن تبدأ فوراً، من تحصين الداخل والبدء بتنفيذ خطة عمل فاعلة تطاول كل تفاصيل الحياة الاجتماعية والعائلية والدينية والسياسية والمالية، لتخفيف الاحتقان ووضع حد للتحريض على الكراهية وإثارة الفتن والترويج لدعاة التطرّف وشحن النفوس والعقول بمبادئ بعيدة من الإسلام، بزعم الجهاد ومحاربة الكفار، مع أن معظم العمليات الإرهابية لم تطاول إلا الإسلام والمسلمين. أما العمليات الخارجية، فأعطت نتائج عكسية شوّهت صورة الإسلام وشحنت نزعات التطرّف لدى العنصريين والصهاينة لمحاربة الدين الحنيف، وإلصاق تهمة الإرهاب بكل مسلم وتهديد مصير الملايين من أبناء الجاليات العربية والإسلامية المنتشرين في العالم، وفي الغرب بالذات. كما أن الملاحظ أيضاً أن العمليات لم تصل إلى إسرائيل، العدو الأول للعرب والمسلمين والتي تحتل القدس الشريف وتهدد بهدم المسجد الأقصى المبارك، ولا ضد إيران التي يدعي المتطرفون أنهم يحاربون مدّها الفارسي والصفوي.

ولا بد أيضاً من الحوار بين الأديان، وبين الدول المعنية، لنزع صواعق التفجير. فالخطر واحد ويطاول الجميع، كما أن الدفعة الجديدة من المقاتلين القادمين من الغرب تنتمي إلى دول شهدت مذابح عنصرية، مثل الشيشان والبوسنة ودول آسيا الوسطى، أو من أقلية عربية مغاربية يقيم أفرادها في دول أوروبية ويحصلون على امتيازات وخدمات اجتماعية وصحية وحقوق كاملة، ما يستدعي البحث في جذور هذه العلة، وكذلك البحث عن العلاج الناجع.

فالخطر قادم والمواجهة حتمية، ولكن هل هناك من يتعظ ويعمل على استباق الحوادث وإيجاد الحلول الجذرية قبل أن تقع الواقعة حين لا ينفع الندم؟