عن صقيعُ لبنان الجميل

د. ناصر زيدان (الانباء الكويتية)

بين “بواحير الروم” و “مطبوخ الارمن” تنتشرُ الحكايات الجميلة عن شتاء لبنان البارد هذا العام. الاولى( اي البواحير) وهي تسمية لتوقعات تستندُ الى رصد الغيوم والشمس بعد عيد الصليب الشرقي لمدة12 يوم، فوفق حالة كل يوم يتحدَّد برأي المؤمنيين بهذا التقويم طقس شهر يقابله من السنة القادمة. اما ما يُطلق عليه “مطبوخ الروم” فيُحدِد توقعات لحالة الطقس لسنوات قادمة، وليس لسنة واحدة فقط. وتشخيصُ المقاربتين هذا العام؛ كان مُطابقٌ لما حصل حتى الآن، حيث البرودةُ اللافتة، والثلوج والصقيع غلبت على مُعظم ايام شتاء لبنان، كما توقعت “البواحير والمطبوخ” وهذا الاخير توقَّع ايضاً ان تسقط الامطار في بعض ايام الصيف القادم على غير العادة.

رَسَمَ الصقِيعُ لوحات رائعة على هضاب لبنان وفي جباله الجميلة، وغزل الثلجُ مغزله الاسطوري صانعاً أثواباً بيضاء على اجساد الصخور والتلال والوديان؛ بسرعةٍ قياسية، كأن مغزلهُ قد تطوَّر مع تنامي تطوُّر التكنولوجيا الرقمية، فخلال ساعةٍ واحدة يُحوِّل اغلبية مساحة البلاد من نتوءاتٍ متناثرة مُؤلفة من سطوح الابنية والاشجار وسواد الطرقاتِ وفسيفساء الثرى المتنوعة الاشكال والالوان؛ الى لوحةٍ بيضاء تنبعثُ منها رائحة القدرة الإلهية الخارقة، كعبرة لمن تجاهل الاعتبار. والمعتاد ان كسوة الارض بالثلج الناصع كانت تأخُذ يوماً وليلة، او كلاهما، بينما غزارة سقوطها هذا العام بدت اكثر كثافة، او غير عادية.

اما الجليد الذي صنعته قدرة الطبيعة، فقد فاق في لوحاتِه الخارقة كُل التوقعات، وصنع مُعجزاتٍ مُتقنة على اجساد الاشجار العارية، كما على وجوه الناس المتجولين في القرى الجبلية العالية، وعلى حيطان البساتين المُستسلِمة، وعلى جوانب الطرقات، بل في وسط هذه الطرقات التي يجوز لنا القول: انها ليست على أفضل حال.

تدنَّت الحرارة في عدد كبير من البلدات الجبلية المُرتفعة الى ما دون ال 10 درجات تحت الصفر في بعض الاوقات، وتجمَّدت المياه في مجاري الأنهُر والسواقي الطبيعية، كما في المجاري الاصطناعية والانابيب المنزلية، وفرضت من دون إستئذان؛ أنماط جديدة من طُرُق العيش البدائية من دون مياه جارية؛ بعد ان كادت هذه الأنماط ان تُصبح حكايا من الماضي عند بعض القرويين، لأ الطقس شبه الدافيء الذي مرَّ على شتويات لبنان خلال العشر سنوات المُنصرِمة؛ ساهم في تعميم النسيان الذي هو سِمةً من سماتِ الانسان، وخصوصاً في لبنان.

ما يُقارب 30 يوماً من مجموع 50 يوماً مرَّت حتى الآن من ايام فصل الشتاء؛ كانت مُثلجة في الجبال، وممطرة في السواحل، وباردة في كُل مكانٍ من لبنان، وعوَّضت هذه الايام الماطِرة والمُثلجة؛ نقصاً في المياه الجوفية تراكم عبر سنوات الشحّ الماضية. وهذه الايام  فرضت نفسها على برامج الناس اليومية، في اماكن العمل وفي المدارس والجامعات، وفي المطاعم وعلى الطرقات، اما في المستشفيات؛ فقد كانت الاوضاع على شاكلةٍ أُخرى ربما تكون غير مُعتادة، فتضاعفت إصابات ” الرشح والانفلونزا العادية ” لأن نمطية الوقاية من البرد تراجعت عند اللبنانيين، وبدت المكابرة، او الاستهتار سيدا الموقِف من جراء تجارب السنوات العشر الأخيرة الدافئة.

جماد الصقيع يفرضُ اعتماد مقاربة خاصة في الحياة البيتية وألاجتماع حول الموقَدة، وتتضاعف الثرثرة الساسية حول المواضيع الساخنة بين الجالسين، كما تتعطَّل اجزاء من حياة الإنعزال – او التوحُّد –  الالكترونية ( اي الإنفراد مع وسائل الاتصال الحديثة) التي اعتادت عليها اغلبية الاجيال الجديدة. وفي الوقت ذاته من ايام الصقيع؛ ترى العصافير وباقي الطيور؛ تتقارب بعضها من البعض الآخر طلباً للدفيء، كما ان الحياة البرية برُمتها تنقبِضُ، وتتقلَّصُ المسافات بين فواصل اغصان الاشجار التي لم تطالها سيوف الجليد البازغة.

وسط صقيع لبنان الجميل؛ يتوسَّعُ الصخبُ السياسي أُفقياً وعمودياً، ويملىءُ الضجيج حول قانون الإنتخاب كل الساحات، او الصالونات؛ في المُدُنِ وفي الارياف. جزءٌ من هذا الصخبِ فيه شيءٌ من تحدي الطبيعة السياسية اللبنانية، وجزءٌ آخر يحصل على وقعِ  حرارةٍ مرتفعة اكثر من اللزوم؛ ولا يتناسب مع برودة الطقس القارسة. ام الجزءُ الأخير من هذا الصخب؛ فقد يُنتِجُ شيءً من دفيء التوافق السياسي؛ عبر حوارٍ يقي من امراض التعصُّب والتهوُّر والتهميش، ويصنع قانوناً يُلائم واقع لبنان.

 

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الانباء الكويتية)

إخفاق في معالجة زحمة السير

الانتخابات والمحاذير المخيفة

الخلافات العلنية والتفاهمات السرية

انتخابات لإثبات الوجود السياسي

الانتخابات تفرق شمل الحلفاء

هل انتهت الأزمة السياسية بين التيار و«أمل» مع انتهاء الهيجان السياسي؟

كيف أطاح قانون الانتخاب الجديد بالتحالفات التقليدية؟

إعادة الحياة إلى وسط بيروت قرار في منتهى الأهمية

عن ذكرى استشهاد محمد شطح «رمز الحوار»

دوافع بيان مجلس الأمن؟

لا مستقبل للسلاح غير الشرعي

هل شملت التسوية الجديدة كل أطراف العقد الحكومي؟

مساكنة حكومية إلى ما بعد الانتخابات

عن شروط الاستقرار في لبنان

القطاع الزراعي اللبناني على شفير الانهيار

لملمة الوحدة الوطنية

ما أسباب مخاوف بري على «الطائف»؟

زيارة الحريري إلى موسكو بين الواقع والمُرتجى

المجلس الدستوري يربك القوى السياسية

الجيش اللبناني ومواجهة المستقبل