موازنة فقدان الثقة وزيادة العجز

د. أنيس ابو ذياب (الأنباء)

بدأت الحكومة اللبنانية بمناقشة مشروع الموازنة للعام الحالي 2017  وذلك بعد غياب دام لاكثر من عقد لهذه الوثيقة التي تعتبر الاهم في المالية العامة. لقد دأبت الحكومات المتعاقبة منذ العام 2005 تاريخ آخر موازنة عامة على الانفاق دون حسيب او رقيب على القاعدة الاثني عشرية الى ان وصل الدين العام الى 76 مليار دولار  مسجلاً بذلك ضعف ما كان عليه في عام 2005.

تأتي مناقشة هذا المشروع بعد انقضاء أكثر من مئة يوم على بدء العهد الرئاسي الجديد، عهد وعد فيه رئيس الجمهورية المواطن بمحاربة الفساد والعمل على سلسلة من الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

لا تكمن أهمية الموازنة العامة بأنها توازن بين الايرادات والنفقات أو تظهر العجز او الفائض فحسب. انها ايضا الوثيقة المالية الاكثر اهمية في الحكومة اذ تعبر عن السياسة الاقتصادية المتبعة من قبلها وتساهم في حسن ادارة المال العام وتأمين انتظام المالية العامة.

تتشكل السياسات الاقتصادية من سياسة نقدية وسياسة مالية. يضع السياسة النقدية وينفذها المصرف المركزي وهي في لبنان مبنية على تثبيت سعر النقد. لقد جاء في تقرير صندوق النقد الدولي الاخير عن الاوضاع النقدية والاقتصادية والمالية في لبنان لعام 2016 أن السياسة النقدية كانت ناجحة ومفيدة و مكنت لبنان من تحصيل موارد ونقود اجنبية اضافية في مصارفه ولدى المصرف المركزي. كما ادت الهندسات المالية المعتمدة مؤخراً  في لبنان (دون الدخول في كلفتها) الى تحويل ميزان المدفوعات من حالة عجز الى حالة فائض.

اما السياسة المالية و التي تضعها الحكومة، فهي ما زالت متعثرة والتوجه الانمائي فيها شبه مفقود. لا تحمل الموازنة العامة في لبنان رؤية واضحة لكيفية الخروج من الازمة الراهنة المتمثلة بتفاقم الدين العام.

يعتبر من بديهيات علم الاقتصاد أنه في حالة الانكماش الاقتصادي (كما هو حالنا)، تعتمد الحكومة سياسة مالية توسعية تقضي بخفض الضرائب أو زيادة الانفاق الحكومي او الاثنين معاً. تهدف هذه السياسة الى التوسع في الانفاق الاستهلاكي من خلال تخفيض الضرائب وتعزيز الدخل الفردي ما يؤدي الى تعزيز الطلب الاستهلاكي، والتوسع في الانفاق الاستثماري من خلال زيادة الاستثمار في البنى التحتية من قبل الحكومة.

تطل علينا اذا هذه الحكومة بعد مئة يوم على بداية العهد الرئاسي ونصفهم على تشكيل حكومة إعادة الثقة بموازنة تقليدية لا اصلاحية. انها موازنة العجز المستمر في كل شيء: في الماء والكهرباء، في الاتصالات والمواصلات، و في سوء البنية التحتية. انها موازنة اللا اصلاح الضريبي المبنية على فرض ضرائب جديدة مخالفةً بذلك القاعدة الاقتصادية العامة. انها موازنة تحوّل الى الكهرباء حوالي ال 2100 مليار ليرة لبنانية بالرغم من انخفاض اسعار النفط  ومن التراجع المستمر للتغذية الكهربائية المؤمنة من قبل مؤسسة كهرباء لبنان ودون اي اصلاح للقطاع. كما انها موازنة لا تلحظ اي امر يتعلق بنظام الشيخوخة.

ان الايجابية الوحيدة في هذه الموازنة هي لحظها لسلسلة الرتب والرواتب بكلفة 1200 مليار ليرة لبنانية غير ان الحكومة تسعى بحجة تغطيتها الى زيادة الايرادات عبر فرض ضرائب جديدة على كاهل المواطن وكأنها تقول له سأعطيك السلسلة ولكنني سأسحبها منك بزيادة الضرائب.

اما في ارقام هذه الموازنة، فقد بلغت النفقات المقدرة لعام 2017 الحالي 24701 مليار ليرة لبنانية بارتفاع 7.7 % عن موازنة 2016 التي بلغت 22983 مليار ليرة لبنانية. توزع هذه النفقات كالتالي: على الرواتب والاجور 8737 مليار ليرة لبنانية، كلفة الدين العام 7100 مليار ليرة، تحويلات الى مؤسسة كهرباء لبنان 2100 مليار ليرة، بالرغم من ان الحكومات السابقة لم تستفد من الوفر المحقق نتيجة تراجع اسعار النفط منذ العام 2014 والبالغ تقريباً 1200 مليار ليرة لبنانية في تحسين واقع الكهرباء.

اما الايرادات المتوقعة لعام 2017 الحالي فتقدر ب 16858 مليار ليرة لبنانية، حوالي 80 % منها ايرادات ضريبية. تأتي زيادة الضرائب بحوالي 30 % عن العام الماضي 2016 و من أهم هذه الزيادات الضريبية زيادة على القيمة المضافة وعلى الرسوم العقارية كذلك زيادة الضريبة على فوائد الودائع.

يقدر العجز ب 7835 مليار ليرة اي ب 9.5 % من الناتج المحلي والتنامي في الدين العام يفوق 5 مليار $ ليصل في نهاية 2017 الى 81 مليار$  بمعدل 142 % من الناتج المحلي. لا بد من الاشارة الى ان النمو المتوقع للعام الحالي هو 2.4 % من الناتج وهذه المعدلات من النمو ضعيفة جداً، اذ أن اقتصاد يعاني من كلفة دين عام حوالي 5 مليار $ تحتاج الى معدلات نمو اكثر من 5 % من الناتج المحلي لكي تستوعب هذه الكلفة، وبغياب النمو الاقتصادي يتحول العجز تلقائياً الى دين عام.

كذلك لا بد من الاشارة الى ان العجز المتوقع يمكن ان يكون اكثر من 7853 مليار ليرة، اذ ان الزيادة على الضرائب ستؤدي الى تخفيض الاستهلاك وتراجع الحجم الضريبي.

في سياق مناقشة الموازنة في مجلس الوزراء من المهم الاخذ بالاقتراحات التالية:

1.    ضرورة تحسين جباية الضريبة قبل فرض زيادات ضريبية او حتى ضرائب جديدة، اذ ان 40 % من الضرائب لا تجبى ويتحمل عبء الزيادة فقط من يقوم بدفعها بشكل كامل.

2.    ضرورة اصلاح النظام الضريبي بشكل كامل باعتماد ضريبة تصاعدية مرتبطة بسلة اصلاحات.

3.    وقف الهدر واعادة النظر بإيجارات المباني الحكومية، ووقف التوظيف من خلال بدعة عقود المصالحة الجماعية التي تشكل عبء كبيرا على مالية الدولة وتدخل الى الوظيفة كفاءات دون المستوى المطلوب.

4.    وقف الفساد في كافة اجهزة الدولة سيما ومنها في الجمارك وفي الدوائر العقارية و غيرها وغيرها من الصناديق والمجالس المختلفة.

5.    اعادة النظر بالرسوم على الاملاك البحرية والنهرية و وضع غرامات على المتعدين عليها

6.    العمل على تفعيل القطاعات الانتاجية وبالاخص وبشكل سريع قطاع السياحة، واستغلال فرصة العلاقة الجيدة مع دول الخليج.

7.    تفعيل دور المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

ختاما،ً بالرغم من ان اقرار الموازنة في مجلس النواب افضل من عدمه، لا بد للحكومة ولكي تستعيد ثقة المواطن ان تطل بموازنة مختلفة بعيدا عن فرض الضرائب وزيادة العجز.