اللبنانيون في انتظار «مجلس شيوخ» يحررهم من القيد الطائفي

عزت صافي (الحياة)

بلغ استقلال لبنان عامه الرابع والسبعين، لكن الشعب اللبناني، في نظر حكامه، لم يبلغ بعد سن الرشد الوطني الديموقراطي ليستحق منحه حق الانتخاب الحرّ خارج القيد الطائفي والمذهبي مع أن الدستور اللبناني ينصّ في مقدمته على أن جميع اللبنانيين متساوون في الحقوق والواجبات.
هذه المفارقة بين النص والتطبيق تجعل اللبنانيين في صراع سياسي دائم مع نظام الحكم، سواء كانوا من أصحاب الحظ بالمرتبة الأولى (الموارنة) أو المرتبة الثانية (السنة) أو المرتبة الثالثة (الشيعة)، أو كانوا من الطوائف الأخرى التي تتوزع بين درجة رابعة ودرجة سادسة. ومع ذلك يخاطبهم رئيس الجمهورية الجديد الجنرال ميشال عون: يا شعب لبنان العظيم.
لكن السنوات الأولى من الاستقلال، وما قبله، تشهد للرعيل السياسي في ذلك الزمن بأنه كان فوق كل الاعتبارات الطائفية والمذهبية، إلى درجة أن اسم الشيخ السنّي الطرابلسي المعمم محمد الجسر كان مطروحاً بين أسماء أقطاب موارنة مرشحين لرئاسة الجمهورية، بل إن أيوب تابت البروتستاني، وحبيب باشا السعد، توليّا سلطات رئاسية في زمن الانتداب الفرنسي، وقد اشتهر كل منهما في عهده بالمكانة المميزة، وبالاستقامة والشجاعة والوطنية أمام سلطة الانتداب.
ولماذا العودة إلى أسماء من التاريخ القديم، فكم من المغتربين اللبنانيين الذين غادروا وطنهم في الثلث الأول من القرن الماضي إلى دول أميركا اللاتينية والولايات المتحدة وأوروبا، وحيث استقروا بأسمائهم الموزعة على كل الطوائف والمذاهب، استطاعوا أن يتبوأوا مناصب رئاسية ووزارية، ووظائف عليا، فكانوا، كما أمثالهم من الأجيال الجديدة، رموزاً في القيادة والمسؤولية، مع اعتزازهم بأصولهم اللبنانية.
ذلك الـ «لبنان» الذي حمله هؤلاء الرواد إلى عالم اغترابهم لا أثر له في أرض الوطن حيث الشعب اللبناني «عظيم» بالجملة، لكنه، بالمفرّق، موسوم بالطائفية والمذهبية، بدءاً من أصغر مرتبة رسمية إلى أعلى مرتبة. بل إن اللبناني الذي يولد وينشأ في مناخ تربوي وطني بعيداً من أي صبغة طائفية أو مذهبية لا بدّ أن يصطدم في يوم ما، في ظرف ما، بعقبة رسمية تستوقفه لتسأله: ما هو مذهبك؟
هي علّة موجودة في أساس الكيان اللبناني، وقد تختفي في بعض المراحل، لكنها تظهر فجأة، وكثيراً ما تكون صادمة، خصوصاً عندما يبلغ لبناني من مذهب معيّن سقف طائفته في وظيفة ما، فيكون عليه أن يتوقف ليتقدم عليه من قد يكون دونه كفاية لكنه من طائفة سقفها أعلى.
هذه «خصوصيات» لبنانية تغيب، وتحضر، ببساطة، ومرونة، ومن دون اعتراض، ولا شكوى. وإذ يرتقي اللبناني، ويتجاوز المطبات والعقبات، متسلحاً بوطنيته ومؤهلاته، ويستمر النظام السياسي اللبناني، على علاته.
فكيف تستقيم الوطنية، والديموقراطية، والعدالة، والمساواة أمام القانون؟
هذه الأسئلة مطروحة حالياً على المراجع اللبنانية العليا التي امتلكت السلطة والقرار وتحملّت مسؤولية إدارة الدولة بجميع مؤسساتها المدنية، والعدلية، والعسكرية.
كل هذه المؤسسات تتمثل حالياً بالرئيس الجنرال ميشال عون الذي ارتقى إلى منصب الرئاسة بإجماع نيابي متعدد الجهة والانتماء، والأهداف. وهو إجماع لم يحظ به أي رئيس لبناني سابق، عسكري، أو مدني، حتى الرئيس الجنرال فؤاد شهاب الذي انتخب في 18 أيلول (سبتمبر) 1958. ففي ذلك الانتخاب أدلى عميد الديموقراطية اللبنانية ريمون إده بصوته معارضاً، ويومها صرّح تحت قبة مجلس النواب: لكي تستقيم الديموقراطية ويبقى الاحترام للجمهورية اللبنانية.
ولعلّ الرئيس الجنرال عون قد استعجل المواجهة مع معارضة لم تظهر بعد. حدث ذلك في مطلع شهر شباط (فبراير) الجاري يوم استقبل مجلس نقابة محرري الصحافة اللبنانية، وأعلن بعفوية وعزم أنه «مصمم على المواجهة» في موضوع تعديل قانون الانتخاب دفاعاً عن وجهة نظره.

رابع رئيس عسكري
الجنرال عون هو رابع رئيس عسكري على الجمهورية اللبنانية. وإذا كانت ظروف أمنية استثنائية قد فرضت انتخاب الجنرالات فؤاد شهاب وإميل لحود، وميشال سليمان خلال العقود الخمسة الماضية فإن انتخاب الجنرال عون تم في حال من الاستقرار الداخلي، لكن على مسافة قصيرة من جهنم الوضع العربي. وما يميز الرئيس عون عن أسلافه العسكريين أن الثلاثة السابقين جاؤوا من الثكنة إلى القصر الجمهوري مباشرة، أما هو فقد جاء من السياسة التي التزمها ومارسها مدى نحو سبع وعشرين سنة، داخل لبنان وخارجه.
ثم أن الرئيس عون أتى من حلف نيابي على قاعدة نيابية وشعبية ثنائية المعتقد والانتماء الحزبي والسياسي (التيار الوطني الحر، والقوات اللبنانية، وحزب الله)، وهذه قاعدة لم تتوافر لأي رئيس لبناني سابق. وعلى هذه القاعدة يعمل فريق الرئيس لمشروع قانون جديد للانتخابات على مبدأ «النسبية» لكن في فترة زمنية قصيرة، وفي ظروف داخلية وإقليمية غير طبيعية لا تسمح بالمغامرة في المجهول. فإذا كان من الصعب على أساتذة الاشتراع أن يشرحوا للرأي العام اللبناني «آلية» النسبية، فكيف للناخبين في مدنهم وأريافهم أن يتفهموا نتائج وعواقب مثل هذه المغامرة وهم على مسافة قصيرة من مواعيد الاستحقاق الانتخابي كما يؤكد المسؤولون عن طبخة القانون الجديد المنتظر؟
في المسائل المعقدة والشائكة يذهب أهل السياسة اللبنانيون إلى المبادئ الثابتة، وأولها «الوحدة الوطنية» في كل تصريح أو خطاب. لكن هذه «الوحدة» تذهب كلمة في الهواء، أو حبراً على ورق، ويبقى الفعل للإثارة العصبية.
مع ذلك تلوح في الأفق بوادر اتفاق قريب على مشروع قانون انتخاب يرضي جميع الفرقاء على قاعدة التنازلات والتسويات. فالمهم بالنسبة الى رئيس الجمهورية أن يبدأ عهده بمجلس نيابي جديد يضع حداً فاصلاً لزمن تردي الأوضاع اللبنانية. فإلى أي هدف يتطلع الرئيس عون حالياً؟ الجواب عنده، وفي سره. لكن اللبنانيين الذين تحملوا ويلات الابتعاد عن أحكام اتفاق الطائف خلال زمن الوصاية السورية يحدوهم الأمل بزمن أفضل يستكمل أحكام ذلك الاتفاق الذي تم برعاية عربية ودولية، وقد تحوّل دستوراً ملحقاً بالدستور اللبناني الأساس، فصار جزءاً منه لا يتجزأ، على أمل تطبيقه كاملاً ليغادر لبنان، إلى غير رجعة، زمن الفرقة، والقلق، والضعف، والعجز.

«الطائف» وذكرياته
لا يخفى على متابعي الحدث اللبناني المستمر على حاله أن الجنرال عون كان رئيساً لحكومة عسكرية خلال مرحلة الطائف ولم يكن موافقاً عليه، لكن لا بدّ أن الزمن تغيّر، ولا بدّ أن الجنرال الذي صار رئيساً قد اكتفى تجارب، خصوصاً في زمن الغربة.
ولعل الرئيس عون يتذكر حدثاً سياسياً تابعه أثناء إقامته في باريس ضيفاً على دولة فرنسا. ففي الأسبوع الأول من شهر أيلول (سبتمبر) 1991، وكانت الرئاسة الفرنسية للرئيس الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران، عقد الحزب الاشتراكي الحاكم مؤتمراً تحدث خلاله وزير الخارجية رولان دوما ففتح ملفاً عن الخصومات المحلية الفرنسية، وقد ظهرت في ذلك الملف «ورقة صاعقة» وفق وصف الصحافة الفرنسية في ذلك الوقت. وكانت تلك الورقة تخصّ لبنان، إذ كشف الوزير دوما عن مشروع لتقسيم لبنان يعود الى العام 1977. أما المفاجأة الكبرى فكانت اتهام الرئيس الأسبق جيسكار ديستان بأنه راعي المشروع.
لقد أثار ذلك الحدث في حينه ضجّة في فرنسا، وكان سبباً في تأجيج الصراع مع حزب جيسكار ديستان الذي ردّ على رولان دوما بعنف، نافياً التهمة، لكن الوزير دوما عاد وأعلن وجود إثبات موثق في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية ويتضمن تفاصيل المشروع.
عند هذا الحدّ توقف الموضوع اللبناني في الصحافة الفرنسية. لكن إشارة وزير الخارجية الفرنسي الأسبق رولان دوما إلى أن تاريخ الحدث يعود إلى العام 1977 تذكّر بأن الحرب اللبنانية كانت في سنتها الثانية بعد بدايتها في اليوم المشؤوم 13 نيسان (أبريل) 1975.
وإذ يُستعاد ذلك الحدث، سواء كان صحيحاً أو مفبركاً، فللتأكيد على أن تطبيق «اتفاق الطائف» يبقى الضمانة لسلامة لبنان وشعبه. فهل يتضمن مشروع قانون الانتخاب الجديد فصلاً ملزماً بتطبيق البند المتعلق بإنشاء «مجلس الشيوخ» وإجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي مع حلول موعد انتخابات 2021؟
هذا حدث تاريخي إذا تمّ في عهد الرئيس الجنرال ميشال عون، سيكون على مستوى حدث استقلال لبنان في العام 1943.
ومن حق اللبنانيين أن يعلقوا الأمل على هذا العهد. وهم بالانتظار ليتحرروا من القيد الطائفي في قانون الانتخاب، إذ يكفيهم أن يكون لهم «مجلس شيوخ» على أساس طائفي.


اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟