رغيد الصلح والعروبة العلمانية

د.ناصر زيدان (الخليج الاماراتية)

توقف قلب الكاتب والمفكر العربي رغيد الصلح في اكسفورد الجمعة 3/2/2017 عن عمرٍ لم يتجاوز ال 75 عماً، إثرَ نوبةٍ مفاجئة. والصلح الذي حصل على شهادة الدكتوراه من اكسفورد ودرَّس فيها لسنوات، بعد ان غادر بيروت في العام 1975 في اعقاب محاولة الإغتيال التي نجا منه بإعجوبة؛ كان مسكوناً بالهم العربي، وقد يكون خوفه على هذه العروبة، إضافةً الى مشهدِ التشرذُم والضياع العربيين؛ ساهما في تقويض نبضاتِ قلبه حُزناً على المآسي العربية التي تُحاصرنا من كُلِ حدبٍ وصوب.
رُغم إبتعاده عن موطنه لبنان، وعن مسقط رأسه دمشق؛ بنى الصلح جسر تواصل فكريٍ دائم مع وطنه العربي الكبير، من خلال كتاباته المتواصلة عن الهموم العربية، وعن تاريخ المنطقة وتحدياتها، وعن العروبة كأرث تاريخي– ثقافي غني بالتنوع والتعددية، وعن العمل العربي المشترك وضرورة تفعيله “من خلال إدخال إصلاحات على منظومة العمل العربي المُشترك” كما قال حرفياً في مقالة له بتاريخ 27/7/2016.
إنخرط رغيد الصلح منذ صِغره في النضال من اجل إستعادة الحق الفلسطيني السليب، وشارك ميدانياً في صفوف الثورة عند إنطلاقة الكفاح في العام 1965، وواكب التظاهرات والتحركات الهادفة الى الإضائة على الاغتصاب الصهيوني للإرض، وللإحتجاج على الوحشية والتنكيل التي مارسته ” اسرائيل ” ضد الشعب العربي الفلسطيني. وكانت محطه الابرز في ذلك الزمان مشاركته في تأسيس الجبهة العربية المُشاركة بالثورة الفلسطينية بقيادة كمال جنبلاط عام 1972.
على عكس ما يروِّج له بعض الإعلام في دوائر غربية وغير غربية، وفي منتديات الحركة الصهيونية؛ فإن العروبةحضارة وتراث؛ أغنت مفاصل هامة من تاريخ البشرية بذخائر الثقافة والسياسة، وكانت مرجعاً في العلوم المتنوعة؛ من الطب الى علم الفلك الى الهندسة الى فنون الادب والشعر والفلسفة. واضطلع العرب عبر التاريخ بدورٍ رائد، وتبوَّؤا مكانةٍ مُتقدِمة بين أُمم الارض، ولولا التآمر الواسع الذي استهدف المساحة العربية الواسعة عبر التاريخ، من قبل الطامعين في دول الاستعمار وفي الدول الاقليمية المحيطة، ومن الصهيونية البغيضة؛ لكانت الامة العربية على وضعٍ يختلفُ تماماً عن الصورة الحاضرة، لأنها أمة العطاء والتسامح والعلمِ والسلام.
لقد اغنى الاسلام العربية، وعزَّزَ القرآن مُفردات الُّلغة التي تمكنت من التعامل مع المفاهيم المتنوعة والمُتعدِدة، ولم يُلغي اريحية العربية السمِحة في إستيعاب التنوُّع الديني والعرقي واالإثني الموجود ضمن الجغرافيا العربية، واستوعبت الثقافة العربية بعض الخصوصيات التي تحملها مجموعاتٍ من السكان العرب وغير العرب، الذين لا ينتمون الى الإسلام.
كان هاجس رغيد الصلح؛ إثبات احقية العروبة على غيرها من القوميات في كونها وعاء صالح للتنوُّع والتعدُدية وحرية الرأي، وحفظ الضيف والجار، وفي إقامة افضل علاقات الصداقة والتعاون مع الشعوب الأُخرى. وكافح الصلح من موقعه العلمي والفكري في ارقى جامعات العالم في سبيل ابراز العروبة كمقاربة راقية، لا تستهدف الأخرين، وليست “ثقافة عداء” على ما تحاول الحركة الصهيونية إضهارها زواً.
محفظةُ الصلح القومية؛ إحتوت على مجموعة كبيرة من المفاهيم العربية العلمانية، بعيداً عن بعض الغرضيات الضيقة التي إستخدمت العروبة شعاراً لتحقيق طموحاتٍ شخصية، او جهوية، او حزبية، ووفقاً لهذه المُقاربة تخلَّى عن عضويته في حزب البعث عندما إستفزته بعض مظاهر التسلُّط، وعندما اكتشف عند بعض اولياء الامر في الحزب بشقيه؛ ان الشعارات العروبية شيء والممارسات على ارض الواقع شيءٌ آخر.
في كتابهِ ” لبنان والعروبة – الهوية وتكوين الدولة ” جمع باقة من الردود والتاكيدات حول اولوية العروبة في الإنتماء اللبناني، وفي كون لبنان دولةً عربية في الهوية والإنتماء، والكلام الذي يُساق احياناً من قبل البعض على كون لبنان ينتمي الى قومية لبنانية مُستقلة تعيش في مُحيطٍ عربي؛ هو كلامٌ غير صحيح، وينتمي الى حقبة الإستعمار الذي حاول محوِ العروبة في اكثر من دولةٍ عربية، كما حصل مع الجزائر وغيرها.
حملَ الصلح على التوصيفات السطحية التي كان يستخدمها بعض الذين يغالون في الوطنية، او القطرية؛ وكأنهما نقيضاً للقومية. فعل العكس من ذلك اثبتت مباحِث رغيد الصلح؛ انه لا يوجد اي تناقض بين الوطنية والعروبة الجامعة، فالأولى جزءٌ من كُل الثانية، والإثنان يستكملان بعضهما البعض، ويندمجان في سياق القومية الواحدة.
إنتقد الصلح إشهار الولاء الطائفي عند بعض المسؤولين العرب، واعتبر الامر خطيئةً لا تُغتفر، وتقتضي المحاسبة. ففي مقال نُشر بتاريخ 12/8/2016؛ اشار بإمتعاض الى تصريح احد رؤوساء الحكومات العراقية السابقين؛ الذي جاهر في إنتمائه الطاائفي، قبل إنتمائه الوطني والقومي. مُعتبراً ان هذه الأخطاء القاتلة؛ كانت إحدى اسباب التشرذُم العربي الذي تعيشه الأُمة اليوم.
سيفتقد معشر الكتاب والمفكرين وقادة الرأي؛ رائد من رواد العروبة العلمانية المُجرَّدة من العصبيات، في زمنٍ احوج ما تكون العروبة الى مثل هؤلاء.