الجبل حاجةٌ وجودية

شرف الدين جابر (الانباء)

ألا يدرك حاملو لواء الميثاقية والمؤكِّدون مثلنا على أهمية المناصفة والمنادون بالنسبية أنّ الدستور هو من يحفظ الجميع وليست القوانين الوضعية المحاكة على القياسات والطموحات، وأن احترام الدستور يكون بتطبيقه كاملاً دون استنسابية، وأن إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه يقضي بالنظر بعين الإنصاف إلى مكوِّنات الوطن الأساسية وعدم جحود تاريخها وتراثها ودورها؟
ألا يحقُّ للجبل أن يقول كلمته وهو القلب النابض وطنيةً وعروبةً وانفتاحاً بأبنائه المسلمين الموحدين الدروز وبأبنائه الموارنة وبمسيحييه ومسلميه كافةً؟ أم أن إرادة الإصلاح تفرض القفز فوق الحقائق التاريخية واللعب على وتر تحجيم الجبل وتقزيمه كما يحلم المراهنون؟
ألا يعرفون أنّ الجبل قلب الوطن، وكما أنّ المسيحيين حاجة وجودية للبنان، كذلك الموحدون الدروز، وإذا كان لبنان الكبير لا يكون كبيراً إلّا بمواطنيه السنة والشيعة وغيرهم من المكونات الطائفية والمناطقية، إلَّا أنه سيكون بلا قلبٍ وبلا حياة بدون موحِّديه ومسيحييه، فكلاهما أساس وجود لبنان، والموحِّدون الدروز أسبقُ في أحقيَّة هذا الوجود، لكنهم واقعيون، وقد أدركوا باكراً أنّهم بحاجة إلى أخوانهم المسيحيين وإلى أخوانهم اللبنانيين كافة لتحقيق حلم الوطن الجامع المستقلّ، وأنهم لا بدَّ أن يسيروا معاً إلى الأمام بتطوير الصيغة الوطنية وفق ما تقتضيه مقتضيات العيش المشترك وقيام الدولة العادلة.

وإذا كانت الميثاقية تعني الالتزام بالدستور وقواعد الدولة، والمناصفة تعني تجاوز الحالة العددية والإقرار بالقيمة الوجودية للمسيحيين وإعطائهم بالتالي نصف المقاعد النيابية وليس ثلثها أو أقل بحسب ما هو عددهم، وذلك ضمانة لهم واعترافاً بحقِّهم التاريخي في قيام لبنان، أفلا يقضي الحقُّ والعدلُ والوفاءُ بأن يعترف المسيحيون خصوصاً واللبنانيون عموماً بالقيمة الوجودية الحقيقية والتاريخية للموحدين الدروز، وعدم تناسي حقوقهم وإغفال دورهم وتضحياتهم عبر التاريخ؟

الاعتراف بحقِّ الموحِّدين الدروز يكون بالاعتراف بأهمية الجبل ودوره الوطني التاريخي، هذا الجبل القائم على التنوُّع والشراكة الحقيقية والذي لن يسمح بأن تجرفه التيارات الطائفية مهما قويت، ولن يرضى بأن تحاصر القوانين الجائرة قياداته المؤتَمنة على تنوُّعه وتراثه وأصالته وأن تحجِّم دوره وقيمته، مهما ادَّعى واضعوها الحرص على العدالة والمساواة والميثاقية.
لماذا يحقُّ للمسيحيين وللمسلمين الشيعة ولغيرهم أن يتمثَّلوا بقياداتهم العليا وبكتلٍ نيابيةٍ وازنة ولا يحقُّ للموحِّدين ذلك؟ لماذا يعطِّلون الانتخابات الرئاسية ويوقفون سير العمل في مؤسسات الدولة إلى أن يكون لهم ما يريدون، ومن ثم يعتبرون أنَّ المطالبة بقانونٍ انتخابي يحمي وجود الجبل بتنوّع طوائفه وأحزابه من التشتُّت والإضعاف نوعاً من التعطيل لمسيرة العهد وإصلاح الحكم؟
لم يكن الجبل يوماً معطِّلاً ولا طائفيَّاً مغلَقاً، ولم يكن وليد جنبلاط ومن قبله كمال جنبلاط إلَّا زعيماً وطنيَّاً جامعاً، وهو، كما أبناء الجبل الأصيلون، رائدُ السلم الأهلي وربَّان العودة المسيحية ورجل التسويات والمصالحات، وإذا كان هناك من عدلٍ ووفاء في هذا الوطن، فوليد جنبلاط، بما يمثِّل من إرثٍ تاريخي ووطني، هو أول مَن يجب أن يُؤخَذ برأيه وتُحترَمُ مواقفه، وأول من يجب أَن يُحافَظَ على وزنه وموقعه وقد استحقَّهما بجدارة وعملٍ دؤوبٍ وتضحية، والموحِّدون الدروز هم أول مَن يجب أن يُراهَنَ على إخلاصهم للصيغة الوطنية وعلى ولائهم المطلَق للبنان، والحزب التقدُّمي الاشتراكي هو أوَّلُ مَن يجب أن يُحتذى بتجربته اللاطائفية القائمة على التنوُّع والديمقراطية.
لسنا هنا لندافعَ عن الجبل وأهله وقيادته من منطلقٍ تعصُّبيٍّ أو فئويّ، ولسنا هنا لنقطع الطريقَ على أيٍّ من أبناء الجبل القادرين بحقٍّ على امتشاق سيف القيادة وخدمة المجتمع، ونحن أهلُ حوارٍ وانفتاح وديمقراطية ونتطلَّع دائماً إلى وطن القانون والمساواة ونؤكد على إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وكلِّ ذي حجمٍ حجمه، والحجم لا يقاس بالعدد فحسب بل بالترث والتاريخ والدور والارتباط الوطني الأول والأخير، ولذلك نرى أنه من غير العادل والمسموح به التفريط بموقع الجبل وأهله وبدوره الفاعل في المعادلة الوطنية، ومحاصَرة قياداته في الإطار العددي والنسبي، ونحن نحرصُ كلَّ الحرص بأن يبقى هذا الجبلُ مثالاً في وطنيته وتنوُّعه وتماسكه وقوَّته، وبأنَّ يظلَّ موجوداً على طاولة المسؤولية والقرار الوطني، لا مهمَّشاً أو ملحقاً، لافتين إلى أنَّ تجاهلَ التاريخ يُوقع في مهاوي المستقبل، وأنَّ الإساءةَ إلى القلب تضرُّ بالجسم كلِّه.
لذلك كلِّه نحذّر من تكرار التجاهل ومن العودة إلى الإساءة ومن محاولة تطويق الجبل وإضعافه، وربما بأسلوبٍ مختلفٍ هذا المرة، أي بقوانينَ تشدُّ الخناق على عنفوان الجبل وحقِّه الوجودي، لكننا نثق بالمخلصين والعقلاء الذين لا يرضون بذلك، خشية أن تكون النتيجة عودةً إلى الوراء تحت شعار التقدُّم إلى الأمام، ولسنا مَن يشتهي مثل تلك العودة، ونأمل ألّا يسعى أحدٌ إليها مهما علا شأنه، من خلال قانونٍ مهجَّنٍ وكأنَه حقٌّ يُرادُ به باطل.

(الأنباء)