…حتى لا يعيد التاريخ نفسه!

يتقن رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط لغة الحوار ويعرف كيف يرد بهدوئه الوطني على المزايدات بالمصالح الفئوية طارحا النقاش بعقلانية الزعيم الوطني الذي يزن كلامه بميزان “الجوهرجي” الحريص على السلم الأهلي وحفظ المنجزات وأهمها المصالحات التاريخية التي يحفظها غصبا عن المصطادين بالماء العكر، وسدا منيعا بوجه العابثين بالأمن والمتهورين الذين تعجز بصيرتهم عن أخذ العبر من وجع الأمس!

إنها فعلاً مفارقة! أن يدفع هذا الوطن الجريح ثمن المراهقة السياسية لأصحاب المشاريع الإلغائية من عقدٍ لآخر! وكأن قدر لبنان أن يكون ضحية التلاعب المغرض في الطروحات السياسية والانتخابية قياسا بالظروف الإقليمية وميزان معسكر الدول الخارجية ومدى استقواء الفئات الداخلية فيها لتحقيق الثأر من جيل إلى جيل!

في خضم المزايدات بالمواقف يستدرك جنبلاط تداعيات الصدامات من تصريحات الرعاع من الفرقاء، فيرد مفاجِئاً الجميع بحكمة الإنفتاح مشددا على ضرورة الحوار والتلاقي مع كل الفرقاء متعاليا عن لغة التهميش والتطاول التي يمارسها البعض باستعلاء فارغ وانفعالات غوغائية لا تبني وطناً ولا تعطي للشعب حقوقا، بل تهدف لاستعطاف القاعدة الفئوية بانتصارات وأحقاد دفينة!

يضرب أحدهم مفهوم الشركة الوطنية قائلاً: “لن نسمح لجنبلاط بأن يسمي نائباً مسيحيا”، فيعطي جنبلاط للصوت المسيحي بعده في اللقاء الديمقراطي، من خلال التعاون النيابي والسياسي، المتنوع، والمنفتح الى اقصى الحدود داعياً لزيادة هذه الشراكة مع كل الاحزاب والتيارات والفئات باعتبار التنوع جوهر السياسية اللبنانية. وفي المقابل، لا يخجل هؤلاء بطروحاتهم الهادفة للإنقلاب على الطائف الذي أوقف حمام الدم بعد حرب ثلاثين سنة! فكيف ينتصر بالوطن وللوطن من يستمر بنبش الأحقاد هو وفريقه السياسي وقاعدته الشعبوية الموتورة التي تتحرك مع طروحات مطران أرعن بلسان محامٍ حاقد يكتب بكل وقاحة افتراءات فيهين بما يقوله ومطرانه الإكليريوس المسيحي قبل غيره!

تعالوا لنطرح المسائل بوضوحها، ولمن ينسى التاريخ نذكره أن جنبلاط سار بالمصالحات مع بيئته السياسية وأبناء طائفته ورجال وقفوا معه في الحرب وأيدوه لقراره الصارم بالسلم الأهلي! لقد أنجز هذا الزعيم الوطني المصالحات التاريخية في كثير من المواقع على حساب أتباعه ورفاقه. وكل هذا في سبيل السلم الأهلي وحماية الجبل! وفي المقابل، يأتي من تملص من الطائف ويحاول اليوم الانقلاب عليه بمشروع إلغائي جديد محاولاً فرض سلطته التي وصل إليها بتعاون جنبلاط نفسه!

انتصار كمال جنبلاط

أما العجيب المضحك بطرحهم لقانون النسبية فيكمن بغايتهم الكيدية، وهم على غفلة منهم ينادون اليوم بمشروع كمال جنبلاط السياسي الإصلاحي الذي حاربوه لأجيال! وكأنهم نسيوا أن المعلم هو “أبو النسبية” في سياق الإصلاح الوطني العابر للطوائف بينما تهدف النسبية في طروحاتهم لترسيخ الطائفية والمذهبية!

لم يتخل المعلم حتى مع أخصامه السياسيين الكبار عن المفهوم الوطني في طروحاته، ولم يخض حربا الا بمبادئ على قاعدة الانسان هو الغاية والجوهر في كل قضية. وها هو نجله يستمر بخط الاعتدال متواصلا مع خصومه في السياسة قبل حلفائه، ويخاطب أمله بعقلانية رئيس البلاد داعياً للخروج من هذا السجال قائلاً: “في النهاية نحن شاركنا في هذا العهد ونتمثل بوزيرين بعد أن صوتنا للرئيس ميشال عون ونتمنى عليه أن يتفهم وجهات النظر المختلفة وان نصل معه ومع الآخرين الى قانون انتخابي جديد، ولكن يجب ان تقام الانتخابات في موعدها وهذا اهم شيء”.

 والسؤال يطرح نفسه بديهياً برسم العقلاء: كيف يلّوح رئيس البلاد الذي وصل لسدة الحكم بعد فترة شغور بفراغ جديد في المجلس النيابي في وقت يعلق اللبنانيون الأمل على إدارته للعهد بوطنية ترفض المصالح الفئوية! وكيف يلوح للشعب بفراغ في مجلس الشعب وهو المؤتمن على الدستور وحفظ المؤسسات الوطنية؟!

_ZAT3186

ضبط الشارع

لوليد جنبلاط الذي كان قدره مراً بحمل تبعات المرحلة بعد اغتيال والده قدرة واضحة على ضبط الشارع اليوم. هو الذي دفع ثمنا باهظاً قبل أخصامه السياسيين في مواقفه الوطنية وعلى حساب قاعدته الشعبية!  لكنه إذ يعزز المصالحات ينبشون أحقاد وتداعيات مرحلة اغتيال المعلم بالأمس البعيد. ويتحدثون بلغة الاضطهاد والتهجير رافضين قبول الحقائق وتفهم محاولاته الحثيثة لوقف مجزرة النظام السوري في الشوف إبان استشهاد والده!

المؤسف فعلاً هو غلبة المصالح الضيقة والطائفية المقيتة على المصالح الوطنية، واستغلال الهواجس المسيحية بخطابات شعبوية تدعي الحرص على مصالحهم ووجودهم وتستعملهم وقوداً لتحقيق مكاسبها الخاصة! فأين الصوت المسيحي العاقل؟ صوت الحق الذي يجب أن يعلو  بمواجهة لسان الباطل؟! وكيف تسمحون يا أهل العقل والوعي باستمرار نهج الحقد المتنامي منذ عقود وكيف تقبلون ان ينادي لسان الحقد بمصالحكم على قاعدة إلغاء الآخر؟!

جنبلاط متعاليا بوثيقة إصلاحية

وفوق كل هذا التجنّي، يطل جنبلاط بعقل واتزان طارحا وثيقته السياسية الإصلاحية تحت شعار “نحو حقبة جديدة من النضال السياسي والإجتماعي” متعاليا على الإساءات مخاطبا رفاقه: “أولا اريد ان أؤكد انه لا بد من إزالة اي انطباع نتيجة بعض المقالات المجرحة في صحف معينة بأن هناك خطرا او اقصاء او تهميشا على مكون من مكونات لبنان. فتاريخ لبنان مبني على التنوع وقبول الاخر والشراكة والتعدد وليس هناك اي خطر او اي خوف. ثم ان اللقاء الديمقراطي الذي تشرفت ان ارأسه ولا زلت على عديد من السنوات ليس قضية عدد، فموقف اللقاء الديمقراطي المتنوع في الجبل والشوف وعاليه والمتن وراشيا وحاصبيا وبيروت هو الاساس، وقد تذكرون كم وقف هذا اللقاء مع رفاقه في لائحة الشرف في مواجهة التمديد وكم وقف هذا اللقاء في غيرها من المحطات، في الأمس كنا 18، واليوم 11. قد ننقص، قد نزيد، فالامر ليس بالعدد انما الأمر في الموقف”.

هذا هو وليد جنبلاط ابن الثوابت العربية حفيد أمير البيان شكيب أرسلان وابن المعلم كمال جنبلاط اللذين تركا مدرستين فكريتين نأمل انتشار المعارف منهما.

هذا جنبلاط الذي أهدى سلاحه للمقاومين ليتابع معهم خطه في الدفاع عن فلسطين بعيدا عن المتاجرة بقضيتها!

هذا هو الذي وقف ضد حلفائه رفضاً لإلغاء معروف سعد في صيدا..والذي أعطى للصوت المسيحي بعده في حزبه وأراد المسيحيين شركاء بالقرار في اللقاء الديمقراطي. فأين هم الحاقدون من وطنيته حين يرسخ المصالحات ينبشون القبور، وحين يعززها يحاولون الانقلاب على الطائف وكأنه دستورٌ منزلٌ لصالح وليد جنبلاط وحده!

جنبلاط

عذرا، اسمحوا لنا أن نقول لمن يتحدث عن اتفاق الطائف دون أن يفهمه: الطائف ثمرة إجماع وطني على حل للمعضلة اللبنانية وفق ميثاقية وطنية وخطة مرحلية. وفيه تجدون الحلول المنصفة التي أنهت الحرب الدامية بمشاريعها الإلغائية عبر إيجاد حل المناصفة بالحكم بين المسلمين والمسيحيين وفق الميثاقية الوطنية. وأي قانون إنتخابي لا يراعيها لا ولن يكون دستوريا.

إن كنتم تريدون الإصلاح الوطني بصدق وشفافية فلتقرأوا عناوين الاصلاح التي تتمثل بـ:

1- تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية تمهيداً لإلغائها

2- تشريع قانون عصري للأحزاب على أساس وطني لا طائفي

3- إنشاء مجلس للشيوخ

4- إقرار قانون للإنتخابات النيابية على أساس وطني وبمعايير عادلة وعصرية ومتطورة خارج القيد الطائفي

5- تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة

6- إقرار قانون مدني إختياري للأحوال الشخصية.

ولقد قالها وليد جنبلاط بالصوت العاقل: “إما الستين معدلاً وإما تطبيق الطائف كاملاً، فلماذا يلجأ البعض لتأجيج الشارع برعونة في وقت يحدد الطائف طريق الإصلاح للإصلاحيين الحقيقيين؟

…حتى لا يعيد التاريخ نفسه!

(*) هلا ابو سعيد – الأنباء