عندما تكون اللغة العربية في خطر

بقلم د. ناصر زيدان

يختلف المؤرخون حول اصول اللغة العربية وتاريخ بروزها، ولكن الاختلاف يتقلَّص الى حدود ثلاث فرضيات ليس فيها تناقضات واسعة، او انها لا تُلغي الاعتقادات السائدة، ولا تُخفف من المكانة المرموقة التي عاشت عليها اللغة العربية في العصور الغابرة.

هناك مَن يعتقد ان العربية هي اللغة التي تحدث فيها آدم عليه السلام، وبالتالي فهي سابقة على ظهور العرب. وجاء في حديث نبوي: ان نبي الله اسماعيل ابن ابراهيم كان اول مَن نطق بالعربية. اما الاعتقاد الاكثر شيوعاً؛ فهو في كون يعرب بن قحطان هو اب العربية التي سُميَت على اسمه.

ومرَّت العربية بمراحل مُتعددة عبر التاريخ؛ فقد كان هناك العربية الجنوبية ( نسبة لجنوب الجزيرة العربية) وعربية شمالية نسبة لشمال الجزيرة. وقد كانت العربية تُقسم الى ثلاثة اصناف: العربية التقليدية والعربية الرسمية والعربية العامية المنطوقة غير المكتوبة.

اللغة الأكدية السامية التي إنبثقت من حروفها اللغة العربية؛ هي اقدم لغات الارض المكتوبة على الاطلاق، والعربية هي الاولى بين اللغات السامية، وحافظت على تألُقها واستمراريتها، بينما اندثرت قريناتها ألأُخرى مثل؛ اللغة البابلية واللغة الاشورية واللغة الإيبلاوية واللغة الآدومية واللغة السامرية. وكانت اللغة العربية عروسة اللغات العلمية على إمتداد فترات طويلة من الزمن، واشتهرت عن غيرها بكفاءتها في صياغة صُوَرُ الشعر الجميلة.

والعربية التي عُرفت مكتوبةً بخط ” المسند ” منذ القرن العاشر قبل الميلاد في شرق الجزيرة العربية ( مملكة سبا) وفي فلسطين القديمة؛ اغناها القرآن الكريم ( قرأناً عربياً غير ذي عوج – 28 ) وصقل تحريكاتها ووسَّع من مساحة إنتشارها، وابرز فصاحتها، وألَّقَ بلاغتها، وغدت بعده مرجعاً تستند اليها شعوبٌ كثيرة، ويتحدث بها او يستخدمها اكثر من 700 مليون انسان على امتداد الكرة الارضية، بينهم ما يزيد عن 422 مليون عربي او من اصولٍ عربية.

اهم مطبعة في مدينة حيدرآباد الهندية؛ كانت المطبعة العربية، وكانت العربية تُستخدمُ على نطاقٍ واسع في باكستان وبعض مناطق الصين وفي وسط آسيا، حتى ان الكاتب والشاعر الهندي الشهير فضل الحق خير آبادي ( توفيَّ عام 1797) لم يفقه كتابة الشعر إلا باللغة العربية، وكانت كتاباته مرجعاً في الادب والشعر والعلوم الأُخرى على مدى عشرات السنيين.

مخاطر تُهدد اللغة العربية

الخطر يداهم اللغة العربية اليوم، وهي تتعرَّض لحربٍ ضروس من جبهاتٍ عديدة، تشبِهُ الحروب التي تستهدف الامة العربية من كُلِ حدبٍ وصوب. وهي تُنازع للبقاء على قيد الحياة وحيدة متروكةً لقدرها، لا مُعين لها؛ لولا بعض المبادرات الاصيلة التي تطفوا على سطح مساحة التربية والثقافة في بعض المُدن والعواصم العربية، ومنها اعلان 18 كانون الاول/ ديسمبر يوماً عالمياً للغة العربية، امَّا آخر المبادرات القيِّمة ذات الصلة فكانت؛ إطلاق ” وسام القراءة ” في كلية العلوم الانسانية في جامعة الامارات العربية المتحدة لتعزيز قراءة اللغة العربية، والمُسابقات الكتابية التي حصلت في لبنان، وشملت سياسيين وفنانيين واساتذة واكاديمين وطلاب، في 10/12/2016 ، إضافة الى المؤتمر الذي دعى اليه الحزب التقدمي الاشتراكي في قصر الاونيسكو للدفاع عن اللغة العربية في 15/12/2016.

مما لا شك فيه بأن تراجع مستوى اللغة العربية؛ ناتجٌ عن تراجع مستوى الوعي السياسي في البيئة العربية برُمتها، وهذه البيئة ساهمت في إشاعة نوع من التكابر على لُغة الامة، وجعلت من الحديث عنها؛ مسألةٌ لا تدعوا الى الإنصاط، او الى التشويق، واصبح الإبتعاد عن استخدامها في بعض المنتديات؛ سِمةٌ عامة، تُشبه الهروب الى الامام من واقعٍ مرتبِك الى واقعٍ آخر اكثرً استقراراً، او اكثر تطوراً، وهذا الامر يحدث في معظم البيئات العربية، بما فيها عند المجموعات المُتشدِدة قومياً.

وقد تحوَّل تعلُّم اللغات الاجنبية – وهي مسألة ضرورية جداً في عالم اليوم – الى إنقلابٍ على لغةُ الامة. وكانت اغلبية السياقات التي تحصل فيها عملية تدريس الانكليزية؛ تنمُّ عن خطط لإستبدال لغةٍ بلغةٍ أخرى، مما همَّش الى حدٍ بعيد مكانة اللغة العربية. وقد تطور الامر في بعض المجتمعات العربية الى اعتبار: ان اللغة العربية “لزوم ما لا يلزم” او انها لغة لا حاجة لها في سياق سيرورة الحياة العامة والحياة العملية، وانها – اي العربية – لغةٌ مُعقَّدة، وفيها الكثير من التحريكات القاسية على السمع، وتحمُلُ المعاني المُتعدِدة التي تُربِك مُستخدميها.

بطبيعة الحال؛ فإن تلك المقاربة تحمل الكثير من التجنِّي والتشويش على العربية، وهي تأتي في سياقِ خطةٍ مُمنهجة لتدمير العربية شيئاً فشيئاً، وتُساهِم الإغراءات الغربية عبر وسائل الاتصال الحديثة في تلك الخطة التدميرية، وابتداع كتابة الكلمات العربية بالأحرُف اللاتينية عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ جزءٌ لا يتجزأ من المشروع التدميري الذي يطال لغة الأُمة، علماً ان هذا الإستخدام للأحرف اللاتينية لا حاجة له على الإطلاق لكون كل اجهزة الاتصال الهاتفية، واجهزة الكمبيوتر الحديثة؛ فيها أحرف عربية، ومُصنَّعة وفقاً لأحدث التقنيات التي تحفظ للعربية دورها ومكانتها، بما في ذلك وسائل الترجمة الفورية الحديثة عندما تقتضي الضرورة لذلك، كما ان العربية هي اللغة السادسة المعتمدة في منظمة الامم المتحدة، وهذه المنظمة الدولية التي تعني كل العالم؛ تفرض ترجمة كل وثائقها الى العربية، وتستخدمها كلُغةٍ رسمية منذ  العام 1974 .

وما يثيرُ مخاوفنا على لغة الامة؛ هو المبالغة في تهميشها في المدارس والجامعات العربية، وتكاد اقسام اللغة العربية في كليات الآداب؛ مُقتصرة على طلاب من جنسياتٍ غير عربية يرغبون بتعلُّم اللغة العربية، بينما يتزايد اعداد الطلاب العرب في اقسام اللغة الانكليزية واللغات الاجنبية الأُخرى. وقال لي احد الزملاء من اساتذة الجامعة اللبنانية يُدرِّس اللغة العربية: ان قراءة ابيات من الشعر العربي في قاعة المحاضرات اصبح مدعاةً للسُخرية في بعض الاحيان، وان طلاب الادب العربي يخجلون من إختصاصهم، ولا يجاهرون به، في إيحاءٍ على ان الامر ” موضى قديمة ” تُشبه اصناف الثياب التي يجب تبديلها.

ان ضعف اللغة؛ هو بكل تأكيد ضعفٌ للأُمة، ولا يمكن للشعوب ان ترتقي بلغةِ غيرها. فاليابان على سبيل المثال: تستخدم كلمات اللغات الاجنبية على انتاجها الصناعي الذي يغزو اسواق العالم، ولكنها تستعمل اللغة اليابانية في كل مندرجات الحياة العامة في اليابان، بما في ذلك في المدارس والجامعات. اما السياق الذي يسود في بعض الدول العربية اليوم؛ هو عملية إستبدال للغة العربية بلغاتٍ اجنبية أُخرى، على اعتبار ان المكانة الاجتماعية – الثقافية للشخص الذي يستخدم اللغات الاجنبية ارفعُ مستواً، وهذه بحدِ ذاتها مآساة عربية تُضاف الى مآسي الأٌمة المُتعدِدة الأُخرى. ومما يؤسف له أشدَّ الاسف ان المراجع العليا في دول عربية تُشجع على هذه المقاربة القاتلة، ناهيك عن دور وجهاء الصالونات والفنادق.

مستقبل قاتم إذا ما استمرَّ الاستهتار

عشرات المدارس والجامعات في دول عربية متعددة؛ تمنع طلابها من التحدث باللغة العربية داخل حرم هذه المؤسسات، ومنها مؤسسات حكومية وتديرها الدولة. وتكاد الكتب العربية تختفي عن رفوف العديد من المكتبات الجامعية. امَّا طريقة الترقيم والارشفة؛ فقد غَلَبَ على معظمها التصميم الاجنبي، من دون اي مراعاة للإعتبارات التي تحكُم توصيف التأنيث والتذكير الذي يختلف بالمطلق في العربية عن التوصيف الاجنبي.

 وبينما كانت القوميات الغير عربية التي تعيش في كنف المساحة العربية منذ مئات السنيين، وافراد هذه المجموعات يتحدثون العربية الى جانب لغتهم القومية – مثل الامازيغ والارمن وحتى الاكراد – عادت اغلبية هؤلاء الى تهميش العربية حتى المستوى الادنى، وبدأت ظاهرة إنشاء المدارس القومية – او الدينية – تنتشر في العديد من الاقطار العربية، متجاهلة تعليم اللغة العربية على شاكلةٍ واسعة.

وما يُلفِت الانظار في ناحية أخرى؛ ان الاسماء الاجنبية بدأت تُستخدم بكثرة في عملية إطلاقها  على الولادات الجديدة، متأثرين بثقافة غربية طاغية. فالفرق كبيرٌ جداً بين التمكُّن من اللغات الاجنبية واستخدامها والاستفادة من ثقافة الشعوب الأُخرى، وهي مهمة جداً، وبين اعتناق التقاليد الغربية، وممارسة طُرق واساليب العيش وفقها، من دون ترك اي اعتبار للثقافة العربية، والتخلي عن معالمها الحضارية، وهذه المعالم بطبيعة الحال قابلة للتطوير والتحديث بما يتلاءم مع مستوجبات العصر من كل نواحيها.

اما الاشدُ ايلاماً من كل ما ورد اعلاه؛ فهو واقعة كون العديد من العائلات العربية وفي اكثر من دولة، لا يعرف ابناؤها العربية إطلاقاً، وهم يتحدثون الانكليزية او الفرنسية ويكتبون فيهما، ولا يفهمون اللغة العربية ابداً. ويعمد بعض افراد هذه العائلات الى تعلُّم اللغة العربية في سنٍ متأخرة، مما يُغلِّب على لهجاتهم الركاكة التي تجمع بين الفصحى والعامية، مع استخدامٍ واسع للكلمات الاجنبية في سياق الحديث، او بين الكلمات؛ كأنما اللغة العربية لا تحتوي على ما يمكن الإشارة اليه من اشياء او مقاربات، وهذا طبعاً غيرصحيح.

تخفي كل هذه المؤشرات مخاطر جمَّة تُهدد مستقبل اللغة العربية، وتُنذرُ بإختفائها مع الزمن. تلك كانت تجربة لغات عديدة إنقرضت عبر التاريخ، وقد يكون للغة العربية ذات المصير.  فمنظمة اليونيسكو التابعة للأمم المتحدة؛ قالت ان اللغة العربية من بين اللغات المهددة بالإنقراض خلال القرن الواحد والعشرين، وعددت المنظمة 300 لغة انقرضت من العالم في القرن الماضي.

هل يعتمد المسؤولون التربويون في الدول العربية خطة لإنقاذ لغة الامة، ويضعوا حد للتذاكي الشوفيني الذي لا يعترف بأهمية إدراك اللغات الاجنبية الى جانب العربية، وليس بديلاً لها؟

*تنشر بالتزامن في مؤسسة الفكر العربي