كاسترو ثائراً وحاكماً مختلفاً

د. قصي الحسين

لا بد أولاً من التذكير، بأن “فيدل كاسترو”، هو ابن أنخيل كاسترو، الرجل المهاجر الثري وشبه الأمي الذي جاء من جليقية الواقعة في شمال إسبانيا، وقد كان حصل على مساحات واسعة من الأراضي في منطقة بيران/ بالقرب من مدينة سانتياغو، من خلال الأعمال التجارية. فكان قد ولد فيدل في قرية فينكا التابعة لمنطقة بيران.

وعلى الرغم من ثراء أبيه الذي كان يعمل عنده أكثر من 300 أسرة في أراضيه، فإن فيدل كاسترو، سيكون طالباً مختلفاً وثائراً مختلفاً، وهو لا يزال على مقعد الدراسة، حين أقام مع أسرة أحد معلمي مدرسته في “سانتياغو”. حيث كان كما يذكر يعاني من الجوع لتقتير المعلم في الطعام عليه، وهو لا يزال في الخامسة من عمره، فكانت ثورة الطفل على جوعه في حضانة معلمه له، قادته إلى التمرد والإنتقال إلى مدرسة داخلية، ليكون فيها سيد نفسه. يقول فيدل كاسترو: بعد أن أدركت أنني أصبحت عرضة للظلم، بدأت أرفض جميع الأوامر، وأخالف جميع القوانين، وجميع قواعد الانضباط. واصبحت أصرخ وأقول الكلمات التي كنت أعتبرها محظورة، وهو ما اعتبرته المدرسة تمرداً متعمداً وتم إرسالي على إثر ذلك إلى مدرسة داخلية”.

وحين كان يعود إلى قريته “فينكا”، يضع نفسه أمام التحديات، فيتسلق أعلى جبل في المنطقة. ويعتدي على كاهن القرية، وكاهن في مدرسته. وكان قد صرح بذلك فقال: “لم أكن أتخيل أني أعد نفسي كي أصبح ثورياً”.

كاسترو1

وكان قد أثر فيه غياب أبيه المبكر، فوجد نفسه عندها أنه مرشد نفسه. وهو يعبر عن ذلك متألماً حين خاض أول تجربة سياسية: “لم يكن لدي مرشد قط. كان يجب عليّ أن أبذل جهداً كبيراً في التفكير خلال هذا الوقت الضيق كي أوضح أفكاري وأضعها موضع التطبيق”. ومن الحقائق الأخرى التي جعلته ثائراً مختلفاً، ما ورد في سيرته الذاتية، من أن فيدل كاسترو، مثل كثيرين غيره من الزعماء الثوريين الآخرين، أمثال سيزار أو فوستو ساندينو في نيكاراغوا، وإيفا وخوان بيرون في الارجنتين وغيرهم، قد ولد خارج نطاق الحياة الزوجية المعتادة، لامرأة فقيرة، وصاحبها الثري ببشرته الحنطية. أي أنه بالمعادلة العربيّة: كان فيدل كاسترو ابن أمة.

كانت أمه لينا روس من طرابلس لبنان، تعمل غسالة للملابس. وهي التي أصبحت أم فيدل كاسترو الثوري. غير أن والده تزوجها وآثر أبناءها على أبنائه الشرعيين. وهذا ما جعل حياة فيدل كاسترو فيها ما فيها من نكد الحياة والكرامة. إذ كانت “العائلات الشريفة” في كوبا تنظر دائماً إلى الصبي كاسترو الألمعي والرياضي والوسيم والطويل القامة والذكي، باعتباره ابناً “غير شرعي”، فهو بنظر هذه العائلات، ابن محدث النعمة. و”ابن جليقية”.

ولعل هذا الأمر، كان وراء إحساسه الخفي بالكرامة وبالشرف، المفقودين. وهو الذي أحدثه عنده الهوس العظيم باختلاق المشاجرات طفلاً، وبالمشاركة في مشاجرات الشوارع، حين فكر بالعمل السياسي التغييري في بلاده. إذ انضم أول ما انضم إلى عملية فاشلة ضد الديكتاتور “تروخيو” في جمهورية الدومينيكان.

فخلال زيارة قام بها إلى العاصمة الكولومبية، بوجوتا في العام 1949، سارع بارتداء زي رجال الشرطة ليتمكن من الانضمام إلى القتال، عندما فجر اغتيال الزعيم الشعبي “خورخي جايتان” ثورة شعبية.

وحين ثار في وجه الولايات المتحدة الأميركية، بعد استلامه السلطة، كانت القاعدة الأساسية عند فيدل كاسترو أن لا يقر بالهزيمة في المواجهات. كان يسأل عن ذلك حين يهزم فيقول: “لا تقر مطلقاً بالهزيمة عندما تهزم”. ذلك أنه رفض أن يتراجع أو يقر بالهزيمة، في الظروف التي لم تكن تهدد وجوده فحسب، ولكن ربما كانت تهدد الشعب بكامله، مثلما حصل معه في أزمة الصواريخ الكوبية. وكان يشرح ذلك ويقول: “إنها مسألة كرامة”. فليتراجع الاتحاد السوفياتي، ولكني أنا لا أتراجع. وهو يشرح هذا التحدي الرهيب في تلك اللحظات القاسية التي عاشتها كوبا. وهي رؤية تكونت عند فيدل كاسترو الثائر، من خلال استلهامه ثقافة شعوب أميركا اللاتينية وإسبانيا. إنه هوس مزدوج ممزوج بالرجولة والكرامة.

لعل هذا الهوس البطولي عند فيدل كاسترو، هو الذي فجر الثورة في كوبا ضد الرأسمالية. فقد أراد الرد بالاشتراكية، في الجزيرة الأكثر فقراً والأكثر تخلفاً في أميركا اللاتينية، حيثما تولى السلطة. إنه فيدل الذي استطاع بإرادته الخارقة وإحساسه الثوري المختلف، طفلاً وشاباً وقائداً. هو الذي أكد صموده في السلطة رغم عتو الحصار عليه. وقد صمد وبقي الأكثر إثارة للاهتمام، في تاريخ الرجال الثوريين الحاكمين في العالم.

– أستاذ في الجامعة اللبنانية

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث