النسبية المقنّعة وشبح المثالثة

د. عماد شيّا (الأنباء)

 كان كمال جنبلاط  من اوائل الذين طرحوا النسبية كمبدا لتصحيح التمثيل واعادة تكوين السلطة بكل مستوياتها على اساس وطني غير طائفي. وقد اقترن هذا الطرح بالغاء الطائفية السياسية وقيام احزاب  وتكتلات غير طائفية تخوض استحقاقاتها الانتخابية  ببرامج  وطنية تحكم  وتعارض على اساسها، وتكون النسبية ناظما لعدم جموح الاكثرية النسبية الحاكمة  وضامنا لفعالية وحضور الاقلية  النسبية  المعارضة.

 الطرح النسبي لكمال جنبلاط  موجود في ادبيات الحزب التقدمي الاشتراكي وبرامج الحركة الوطنية اللبنانية، وقناعته كانت راسخة بعدم القدرة على الخروج من النظام الطائفي القائم على الزبائنية والمحسوبية، من دون النسبية المتحررة من القيود الطائفية. ولان بعض المكونات اللبنانية ولا سيما المسيحية منها كانت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي غير جاهزة  ولديها هواجسها تجاه النسبية، فقد اقترح فترة انتقالية 25 سنة، لتحقيق العدالة بين الطوائف وتبديد هواجسها بحيث لا يشعر اي مكون بالاستهداف ويكون اعتماد النسبية مطلبا وطنيا عاما.

  اختلافات عديدة وفجوات كبيرة بين الطرح الجنبلاطي للنسبية والطرح الحالي له. فالاستقطابات المعاصرة لجنبلاط وخاصة لدى الفئات الاسلامية كانت استقطابات وطنية غير طائفية، في حين الاستقطابات الحالية هي الان، في اعلى درجاتها ومستوياتها الطائفية والمذهبية. والنسبية االتي طرحها جنبلاط هي باحزاب غير طائفية وعلى اسس غير طائفية، في حين الطرح الحالي يعتمد على المناصفة الطائفية العددية  وعلى احزاب طائفية ومذهبية  واهمها  حزب الله الذي لديه اجندات وارتباطات وانخراطات محورية واقليمية تفوق قدرة لبنان.

كمال جنبلاط

 النسبية العددية على اساس المناصفة في ظل الاستقطابات المذهبية الحّادة والمركّزة تعني ببساطة نسبية مقنعة لمثالثة اكثريات طائفية شيعية وسنية ومسيحية. وطالما الشيعية السياسية والعسكرية هي الاقوى ضمن هذه المثالثة، فهذا يعني قيام هرم سلطوي راسه حزب الله  وقاعدته مسيحية  واسلامية سنية. اما الاقليات وفي مقدمتهم الدروز، فيكون  مصيرها الذميّة اوالذوبان والتلاشي ضمن هذه المثالثة الممسوخة التي هي نقيض التنوع الخلاق الذي شكلته المجموعات اللبنانية تاريخيا وقامت على اساسه فكرة لبنان.

قد يكون هناك اليوم من بين المسيحيين والمسلمين من لا يزال يشعر بالنشوة  بوصول اقوياء الطائفتين الى رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، والادهى ان يسترسل هؤلاء في نشوتهم  وتجري مقايضة رئاسات مؤقتة وسلطات زائلة، بنسبية منسوجة على غير مقاس لبنان ومكوناته التاريخية، وممسوكة من محاور ومرجعيات لا يعدو لبنان بالنسبة لها كونه  ورقة على طاولة مفاوضاتها مع الاخرين. ان الشعور بالذميّة الذي يتهدد الاقليات جراء النسبية المطروحة، قد ينسحب مستقبلا على اخرين اكثريين اختبروا اشكالا من الذميّة والقهر والاستبداد  بحكم الامر الواقع، على يد الاوصياء السوريين وحلفائهم من بعدهم. فمن يضمن وما هي الضمانة في ان لا يقرر اصحاب الامر في الدفع نحو النسبية  العددية اليوم، تمثيل ازلامهم في الطوائف الاخرى بقوة القانون الذي يحاولون تمريره اليوم، في ظل السلاح وعلى ايقاع معاركهم العسكرية في سوريا وغيرها؟!

ان الدفع المحموم بالنسبية في ظل الاستقطابات المذهبية والطائفية الحادة، وانخراط او تطوع البعض مما يسمى الحراك او المجتمع المدني في الترويج والتطبيل لها، بحثا عن موقع او مصلحة، هو عبث بمقومات وتوازنات وثوابت ميثاقية ووجودية تضمنتها مقدمة الدستور اللبناني وجرى التاكيد عليها  في وثيقة الوفاق الوطني، والتلاعب بها يؤسس  لصراعات وكوارث اختبر لبنان نتائجها اكثر من مرة.

التنوع هو ثروة لبنان ومبرر وجوده والمحافظة عليه واجب المسؤولين والمواطنين على مختلف مستوياتهم  وتلاوينهم السياسية والدينية، وان اي محاولة للعبث بهذا التنوع هو ضرب لاهم ركائز ومقومات لبنان التاريخية والحضارية. فالنسبية المطروحة مضمونا وتوقيتا، تبدو نسبيّة مقنّعة تخفي وراء اكمتّها ذهنية الغاء وهيمنة ومشاريع تهدد لبنان التنوع والرسالة.

(الأنباء)