غياب المشروع العربي فتح قابليات القوى الاقليمية للتوسع والسيطرة

ناجي مصطفى (الأنباء)

لم يكن سقوط مدينة حلب بيد النظام السوري والحرس الثوري الايراني ومليشياته المتنوعة وبدعم غير مسبوق من الطائرات الحربية الروسية المؤشر الوحيد على تراجع وهزال الحضور العربي في المعادلة السورية الناشئة لا بل في معادلة المنطقة برمتها، فثمة مؤشرات اكثر دلالة تؤكد ما هو مؤكد من أن النظام العربي يعيش في حالة موات حقيقية ليس أدل عليها مأساة حلب أقدم مدينة في التاريخ، حيث شهدت عواصم ومدن غربية كثيرة تظاهرات احتجاج ضد العنف الوحشي الممارس بحق اهلها والذي اتخذ شكل جرائم ضد الانسانية تقع تحت طائلة احكام  القانون الدولي، فيما العواصم العربية بالكاد شهدت وقفات تضامنية هزيلة لا تأتلف البتة مع حجم الدم العربي المراق في هذه المدينة التاريخية.

 ولعل أبرز  مؤشرات موات النظام العربي وضمور حضوره وانحساره غياب أي مواقف عربية منددة بتصريحات ايرانية عنجهية استعلائية أطلقت قبل فترة من الزمن إلى اليوم بدءا من اعتبار أن إيران تحتل أربع عواصم عربية وصولا الى اعتبار أن ايران باتت موجودة في منطقة تمتد من بحر قزوين حتى البحر المتوسط في جنوب لبنان وانتهاء بما قاله قائد الحرس الثوري الايراني محمد علي جعفري قبل يومين من أن حلب تشكل الخط الأمامي للثورة الاسلامية في إيران  وبأن طهران باتت تبحث عن أمنها خارج حدودها الجغرافية، كل ذلك معطوفا على ما كان قد صرح به قائد سلاح البحرية الايرانية سيمان جعفري طهراني من أن الدول العربية في الخليج عاجزة عن مواجهة إيران وأن مساحة الرقعة المائية لمهمات القوى البحرية الايرانية ممتدة على أكثر من مليوني كيلومتر مربع.

 ولا شك أن المواقف الايرانية الاستفزازية  هذه تذكر بمواقف ألمانيةمماثلة كان قد أطلقها الزعيم النازي رودولف هتلر عشية الحرب العالمية الثانية عام 1939 عندما كان يعد العدة للسيطرة على بولندا ومنها الى كامل اوروبا مستخدما مصطلح “المدى الحيوي” لألمانيا، وهو مصطلح جديد آنذاك في علم الجغرافيا الاستراتيجية العسكرية ينطوي على نزعة كولونيالية بمنطق تبريري للتوسع العسكري خارج حدود الجغرافيا الوطنية.

وفي مقابل هذه التصريحات الايرانية الاستفزازية برزت تصريحات مماثلة تركية هذه المرة أطلقها نائب رئيس الوزراء التركي “ويسي قاينان” اعتبر فيها أن امن بلاده يبدأ من سوريا والعراق، وذلك في إشارة الى الدور المتفاهم عليه لتركيا في شمال حلب وفي مدينة الباب وحواضرها تحديدا إضافة الى النفوذ الممنوح لتركيا في بعض المناطق المحيطة بالموصل في العراق وفي منطقة كركوك تحديدا.

قبرص تركيا

 إذن نحن أمام نفوذين اعجميين متحفزين يقويان ويتمددان داخل الجغرافيا العربية، واللذين ما كانا ليبرزان لولا الغياب المدوي لمشروع عربي وازن قادر على جبه اي نزعات توسعية خارجية.

   إن غياب المشروع القومي العربي الذي رسم ملامحه وشيد مرتكزاته الزعيم الخالد جمال عبد الناصر منذ منتصف القرن الماضي والذي جرت بلورته أكثر مع استلام حزب البعث العربي الاشتراكي للسلطة في كل من سوريا والعراق، إضافة الى حضور تيار عربي جارف في غير بلد عربي من الجزائر الى اليمن الجنوبي وصولا الى ليبيا ناهيك عن تشكل أحزاب ذات توجهات عروبية في غير ساحة قومية ومنها الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان الذي ربطت مؤسسه المعلم كمال جنبلاط بمفجر ثورة “يوليو” الاشتراكية الرئيس جمال عبد الناصر افضل العلاقات الكفاحية، وقد شكلت فلسطين جوهر المشروع القومي العربي حيث اعطته مبرراته ومشروعيته ومسوغاته النضالية بما هي قضية العرب المركزية وبوصلة الكفاح العربي في سبيل التحرير واستعادة الارض السليب.

 مع خروج مصر، مركز الثقل للمشروع القومي، من دائرة الفعل العربي يوم اختار الرئيس المصري انور السادات الصلح مع العدو الصهيوني من خلال توقيعه على اتفاق كامب ديفيد المشؤوم وذلك على حساب القضية الفلسطينية وسائر القضايا العربية المحقة، بدأ المشروع القومي العربي يشهد انكفاء في الدور والوظيفة، ولعل ما اسهم في إضعاف هذا الدور أيضا تحول البعث لا سيما في سوريا من أحد روافع المشروع القومي المعني بحمل الهموم العربية وفي مقدمها القضية الفلسطينية الى حزب الطائفة فالعائلة  فالشخص، فبات الواقع العربي اكثر انكشافا من ذي قبل ما هيأ الفرصة تارة أمام العدو الصهيوني لغزو لبنان عام 1982 وتارة امام العدوان الاميركي على العراق عام 1990 والذي تجدد وعلى نحو واسع عام 2003 مسقطا آخر حصون المشروع القومي الامر الذي فتح شهية الجار  الايراني اللدود للاطباق على بغداد في تواطؤ مكشوف مع الغازي الاميركي.

إيران التي سيطرت على العراق قدم لها بشار الاسد هدية ذهبية يوم انجر الى قتال شعبه بعد حركات الاحتجاج السلمية ضده التي انطلقت في منتصف آذار 2011 ، فكانت ذريعة الدفاع عن حليفها الاسد بوابة العبور لايران الى دمشق لاتمام صورة الهلال الشيعي الممتد من طهران الى جنوب لبنان والذي كان ينقصه الحضور المباشر لها في سوريا ليكتمل، لا سيما بعد سقوط العراق مباشرة وبالواسطة في قبضة الحرس الثوري الايراني.

 لقد حاولت بعض دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ملء الفراغ الناجم عن غياب المشروع القومي، لكنها ولاكثر من سبب وسبب لم تستطع لعب مثل هذا الدور لا سيما وانها لاتملك الا رؤية اسلامية محدودة  لاي دور عربي مرتجى، وهذا ما بدا واضحا من خلال التشكيلات العسكرية المعارضة التي نشأت في سوريا ،بحيث غابت تماما اي انماط لقوى ديمقراطية شعبية سورية تشبه النسيج الاجتماعي السوري المتنوع والغني، الامر الذي اعطى مزيدا من المبررات للنظام وحلفائه كي يلصقوا بهذه القوى الناشئة صفة الارهاب كونها تنهل من معين فكر اسلامي وهابي للغرب موقف واضح منه باعتباره الاساس الايديولوجي الذي نهل منه اسامه بن لادن توجهاته القاعدية العنفية.

iran

إن مجابهة الاطماع والطموحات التوسعية الخارجية، إيرانية كانت أم تركية أم غيرها، لا تكون إلا من خلال قيام مشروع نهضوي قومي ديمقراطي يأخذ بالاعتبار قيم التنوع في المجتمع العربي مراعيا الخصوصيات الدينية والقومية المختلفة، مشروع قادر على محاكاة الغرب والشرق في آن معا بلغة واثقة تعبر عن مخزون القوة التي تستبطنها القدرات العربية متى تجمعت وفي مقدمها سلاح النفط الاستراتيجي وسلاح الوحدة العربية وتكاملها الاقتصادي واتساع سوقها  إضافة الى موقع الامة الجيو-سياسي الذي يمكنها من لعب ادوار كبيرة كممر استراتيجي لحركة الاقتصاد العالمي.

فهل ثمة مجال بعد لاستعادة العرب لمثل هذا الدور  المطلوب قبل ان تطحنهم رحى المتغيرات والتحولات السريعة التي تهدد حاضرهم ومستقبلهم؟ إنه سؤال برسم الامة وأحزابها ونخبها ومفكريها يجب الاجابة عليه قبل اعلان افول امة فرط بها قادتها على مذبح انانياتهم وشهواتهم المريضة.

(الأنباء)

اقرأ أيضاً بقلم ناجي مصطفى (الأنباء)

اعتماد النسبية… مدخل الى الاخلال بالتوازنات الداخلية في لحظة احتدام طائفي على مستوى الاقليم

بين موسكو وطهران: اختلاف استراتيجيات في سوريا… أم أكثر؟!

لماذا شيطنة قانون الستين وتقديس النسبية؟

سقوط تدمر بيد “داعش” يكشف زيف ادعاء نظام الاسد بقتال الارهاب!

حرب الفيتوات المتقابلة تهدر فرص تأليف الحكومة وتعوق انطلاقة العهد!

وليد جنبلاط المسكون بهاجس التاريخ… قلق من لعبة الأمم!

بعد الانتخاب والتكليف ومساعي التأليف: حكومة الفرصة الأخيرة ما قبل الانهيار والفشل!

سيناريو إفتراضي لما بعد إنتخاب عون!

بعد تجاوز قطوع ترشيح عون… ماذا عن التكليف والتأليف؟!

الاستحقاق الرئاسي: بين سلة بري واستعجال عون!

الاستحقاق الرئاسي: بين ارتباك المستقبل ومناورات حزب الله!

عام على التدخل الروسي في سوريا: اي حصيلة واي نتائج؟

سوريا: قوى تتقدم وأخرى تنكفىء وأشلاء وطن تنزف دما وهجرة!

وليد جنبلاط داعية الوحدة في زمن الانقسام الطائفي والمذهبي

بعد ثورات الربيع… أليس لهذا الليل العربي من أخر؟!

عن الميثاقية المظلومة… ما لها وما عليها!

مستقبل سوريا: اخر محاولات للتسوية والا التقسيم

في ذكرى مصالحة الجبل: تأكيد الاصرار على العيش الواحد

لبنان في ثلاجة الانتظار… الى متى؟

زيارة وليد جنبلاط الى الصرح البطريركي… اي ابعاد؟