الثقافة وتحديات البقاء

د. هشام زين الدين (الأنباء)

بين ممارسة الفعل الثقافي وبين الاعلان عنه أو إشهاره على الجمهور، صراع يعيشه المثقف أو المبدع، يضطره غالباً إلى تقديم التنازلات التي تناقض قناعاته عموماً والثقافية منها خصوصاً، ينطبق ذلك على جميع ميادين العمل الثقافي. يتخبط المبدع في صراعه هذا ويغرق في بحر من التساؤلات التي لا يجد إجابات عليها، ومن أهمها: هل يبقى العمل الثقافي ناقصاً ما لم يصل إلى الجمهور، أم أن اكتماله مرهون بولادته في لحظة ابداع حقيقية قد تبقى مغمورة وقد تدخل أدراج النسيان.

في بلد تقوم الثقافة فيه على المبادرة الفردية بغياب أي دعم حقيقي من الدولة التي تنظر إلى الثقافة نظرة سطحية هي انعكاس لثقافة المسؤولين فيها بامتياز، كيف للمثقف والمبدع الفرد أن يستمر وينتج وأن يواجه الواقع المرّ بثبات وعناد، وإلى أي حد يتمكن من ذلك. إن الغالبية القصوى من الأعمال والمشاريع الثقافية التي نشهدها في لبنان مموّلة من جهات أجنبية عموماً وأوروبية خصوصاً، يضاف إليها بعض المشاريع والفعاليات التي يموّلها أصحابها من جيوبهم الخاصة وهم على يقين بوصولهم إلى هاوية الخسارة المادية، وهم لا يفعلون ذلك إلا تأكيداً على وجودهم ورفضاً للواقع غير الثقافي الذي يهدد إبداعهم وأحلامهم وشخصياتهم وصورتهم الفكرية والابداعية والثقافية وبالتالي الوجودية التي يريدونها هكذا، وليس كما يريدها لهم الآخرون أو كما رسمها لهم الآخرون.

تساؤلات كثيرة ممزوجة بالقلق والغضب وخيبة الأمل ترافق المبدعين والمثقفين قبل وأثناء وبعد ولادة أعمالهم الابداعية، وأمام الحائط المسدود الذي يقف بينهم وبين تحقيق مشاريعهم الثقافية، يضطرون لخلق “شبكة عنكبوت علاقاتية” لايقاع المموّل المنتظر في شركها، فإن وقع، يفرض شروطه الثقافية والسياسية والاعلامية عليهم، وإن لم يقع، ينكفئون إلى إحباطاتهم الغارقة في ليل طويل من الخيبة.
على هامش الموضوع نطرح بعض الأفكار أو الملاحظات المتقاطعة التي تشكل “بازل” أو أجزاء المشهد الثقافي المتناقض الذي لا يمكن توصيفه أو تحديد إطاره نقدياً:
– إصدارات كتب كثيرة ومتنوعة وحفلات توقيع على مدى العام، فيما تشير الدراسات والإحصاءات إلى تدني نسبة القراءة إلى درجات مخجلة. ما يدل على أن الكتاب قد دخل في دوامة الترف الثقافي الشكلي وحلّت أهمية حدث إصدار الكتاب ومراسيم توقيعه مكان محتواه، أمّا دور النشر فتشترط على المؤلف شراء نصف كمية الكتب المطبوعة سلفاً في أحسن الأحوال، وكلّها في حالات أخرى ككتب الشعر لغير المشاهير.

– اعمال مسرحية جادة تُقدّم طوال العام، معظمها مدعوم من صناديق دعم خارجية، تمتلئ المسارح بالمشاهدين في ليالي الافتتاحات حيث يقدم العرض مجاناً، و تقدّم العروض الباقية في صالات شبه فارغة، ما يدل على أن الجمهور لا يدفع من ماله على التحصيل الثقافي لكنه مستعد لتقبله إن قُدِّم اليه مجاناً.

– قلة من المسرحيين تشاهد أعمال غيرها من المخرجين والممثلين، وقلة من الفنانين التشكيليين تشاهد معارض غيرها من “ابناء الكار” وقلة من الموسيقيين تحضر امسيات موسيقية، علاقة غريبة غير واضحة الأسباب ترتسم بين المثقفين والفنانين لكنها تؤشر إلى وجود مشكلة “ثقافية” لدى المثقفين أنفسهم.
– كثرة ندوات ثقافية حول مواضيع متنوعة ومهمة، غالبيتها لا تجتذب الجمهور الذي يصل عدده أحياناً إلى أقل من عدد أصابع اليد.

– الصفحات الثقافية في الصحف تغطي كل شاردة وواردة في المجال الثقافي ما يفترض وجود قارئ مهتم بقراءتها بين جمهور القراء، فيما تغيب البرامج الثقافية كلياً عن شاشات التلفزة والاذاعات الموجهة للجمهور العام  نفسه مبدئياً، وتتكاثر على هذه الشاشات البرامج الترفيهية الساذجة وخصوصاً برامج “التنكيت” القائم بمعظمه على الايحاءات الجنسية، مفارقة تؤشر إلى طغيان الشكل الساذج في اهتمامات السواد الأعظم من أفراد المجتمع على الاهتمام بالمضمون الثقافي للفرد وتطويره .

إن الإضاءة على المشهد الثقافي من هذه الزاوية لا يلغي وجود حركة ثقافية ناشطة تعيش خارج نطاق الأزمة إلى حد ما، روادها من اصحاب الامكانات المادية أم من الذين يتقنون فن إقامة العلاقات العامة “المؤثرة” والمتصلة بأصحاب النفوذ والمال في الداخل والخارج، أم من المبدعين والمثقفين الذين حققوا شهرة واسعة امنت لهم القدرة على الاستمرار مادياً. إذ ليس المهم أن يبني كل مثقف كوخه أو بيته أو قصره بنفسه ويعيش فيه مكتفيا بما انجزه، بل المطلوب أن تتحول الثقافة إلى حاجة مجتمعية، وأن تصبح الحالة الثقافية مفتوحة أمام جميع الراغبين في اختبارها واكتسابها واعتمادها كأسلوب حياة أبداعاً أو تلقياً أو تأثراً، من دون عوائق مادية.
هنا بالذات نصل إلى خلاصة تحمل في داخلها سبب وجود الأزمة الثقافية وهي عدم اهتمام الدولة المؤتمنة على مصير الفرد والمجتمع برسم خطة ثقافية وتنفيذها ودعمها بالامكانات المادية اللازمة، أي ان تستثمر الدولة في الانسان من خلال تثقيفه وذلك من طريق تامين الموارد الثقافية الكفيلة بذلك في التربية والتعليم بجميع مراحله، في المشاريع الثقافية المدعومة من وزارة الثقافة التي تحفز على الابداع في المسرح والفن التشكيلي والسينما والأدب والشعر والرواية، وفي نشر هذه الاعمال وتعميمها على فئات المجتمع كافة، بعيداً عن اقتصاد السوق والتقييم المادي “السلعوي” للعمل الثقافي.

ها هي الحركات الثقافية في العالم اجمع أمامنا، فحيث هناك اهتمام من قبل الدولة توجد الثقافة ويتطور المجتمع ويرتقي الفرد على سلم الحضارة، والعكس صحيح، فأين نحن في لبنان من هذه المعادلة.

——————

(*) مسرحي واستاذ جامعي
(**) رئيس منتدى الفكر التقدمي