عن محنة أمة

د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

ما تشهده بعض الساحات العربية من ويلات؛ أكبر من أن يُوصف. المأساة الإنسانية التي تُرافق الأحداث، أصبحت جُرحاً بليغاً يحتاج إلى وقتٍ طويل لعلاجه، وما يُصيب العمران والبُنى التحتية من دمارٍ وخراب على أرض الواقع، أكثر بكثير مما نراه على الشاشات.
لن نعود إلى البعيد ووصف كل ما جرى منذ أكثر من أربعة عقود، خلال الحروب على فلسطين وفي حرب لبنان وفي غزو الكويت وفي حرب العراق إيران وفي اضطرابات السودان والصومال.. لكن الإطلالة على المحن التي أصابت ساحات عربية عدة منذ غزو القوات الأمريكية وحلفائها للعراق في عام 2003 حتى اليوم؛ تكفي لتوضيح صورة الكارثة التي وقعت في عدد من الساحات العربية، وأصابت شظاياها الأمة العربية بأكملها.
صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية؛ أصدرت عدداً خاصاً بتاريخ 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 تحدثت فيه عن نكبات الوطن العربي المُتتالية منذ عام 2003. وقد يكون الأمر بمنتهى الأهمية عندما يصِف المُراقِب من بعيد ما يجري، فتكون الصورة مختلفة، وغير مرتبطة بحسابات المحاور وتفاصيل السياسة المحلية التي قد تُبرِر هذا الفعل، وتغفِل عن ذكر مبررات الفعل الآخر، والصورة البعيدة تُظهِّرُ المشهد بإجماليه، من دون أن تتأثر بوجع المأساة.

مما تقوله «نيويورك تايمز» على صفحاتها في ذلك العدد الخاص الآنف الذكر: «إن العرب يحاربون بعضهم ويدمّرون بلادهم».. هذا صحيح في جانب ولكنه غير صحيح في جانبٍ آخر، لأن التدخلات الخارجية تتحمَّل المسؤولية عن جُملة واسعة من الاضطرابات والحروب، وهذه التدخُلات ناجمةٌ عن أطماع في توسيع النفوذ والهيمنة، وعن صراعات دولية وإقليمية أفسحنا نحن لها المجال لكي تنخر في عظامنا العربية، من دون ان يكون للعرب أي مصلحة في هذه الصراعات، على العكس من ذلك؛ فإن البعض من الدول الإقليمية والعالمية الكبرى، رأت في أجزاء من مناطق المساحة العربية مكاناً مثالياً لتصفية الحسابات فيما بينها، وقد ساهمنا نحن في فتح الأبواب أمام بعض القوى للتسلُّل إلى ساحاتنا تحت شعاراتٍ شكلية خالية من المضمون وغير عقلانية، ومنها شعارات لها علاقة بالتمايزات الدينية الواهية، وبعض هذه الشعارات عبارة عن مزايدات غالباً ما تكون غير صادقة تتعلَّق بقضية فلسطين العادلة.
وتذكُر «نيويورك تايمز» أن 70% من ضحايا العمليات الإرهابية التي يقوم بها أشخاص عرب أو من أصول عربية هم من العرب أنفسهم». في تلك الإشارة «المدروسة» رسالةٌ واضحة للعرب خصوصاً وللمُسلمين عموماً، تُفيد بأن أسلوب الإرهاب والترويع الذي اعتمده البعض؛ كان أسلوباً مُدمراً وقاتلاً، وزاد من ويلات الأُمة، وشوَّه سمعة العرب والمسلمين، من خلال سلوك تعرُجات مؤلِمة وقاسية ووحشية، ليست من شيم العرب والمُسلمين، خصوصاً عندما تستهدف الأبرياء، أو الانتظام العام، أو المُنشآت الحيوية التي يستفيد منها كل الناس. وعندما تُشير الصحيفة ذاتها في مكانٍ آخر قائلةً: «من حقِ «إسرائيل» ان تشعُر بالراحة والأمان وهي تتفرَّج على العرب يُدمرون أنفسهم وهي ليست مسؤولة عن ذلك»(!) في تلك الإشارة شماتةً واضحة تُسيء إلى العرب، لكنها في المقابل تُلقي الضوء على الجهات التي تقف وراء مساعدة الإرهابيين ودعمهم، كون هؤلاء أساؤوا للعرب واضرُّوا بمصالحهم أكثر مما أضرُّوا بالآخرين.
أمَّا ما يُدمي المشاعر العربية أكثر فأكثر؛ فهو في إشارة»نيويورك تايمز» في العدد ذاته إلى الأرقام المهُوّلة، والمُخيفة للخسائر العربية في الأرواح والممتلكات منذ عام 2003، نذكُر منها على سبيل المثال: أن غزو العراق من قِبل القوات الأمريكية وحلفائها في عام 2003 وتداعياته؛ تكلف أكثر من 1,455590 قتيلاً عراقياً، عدا عن الجرحى والمُعوَّقين والمُشردين، وكلفةُ هذه الحرب قدرتها مصادر الصحيفة بما يزيد على 706 بلايين دولار، من دون حساب قيمة الدمار والأضرار المادية الأُخرى.
التقارير الدولية التي تتناول بعض جوانب ما يجري في العراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال؛ تؤكد أن البُنية الإنتاجية في هذه الدول ضُرِبت بما يجاوز ال 70%، أما استعادة الوضع العمراني والخدماتي إلى ما كان عليه في ذات الدول؛ فيحتاج إلى مبالغ مالية خيالية تفوق ال1000 بليون دولار، إضافة إلى سنوات عديدة من الزمن، هذا فيما لو توقف القتال حالياً، ولكن لا توجد مؤشرات جدية على نهاية المأساة حتى اليوم.
لم يسبق أن وصل مستوى الانحطاط في الوضع العربي العام إلى هذا المستوى، فهل نتعِظ من كل هذه المآسي لنخرج من زمن المِحن؟ –

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

واشنطن وبكين وبحر الصين الجنوبي

إدلب والحسابات الاستراتيجية الدولية

مصر والتوازنات الاستراتيجية الجديدة

موسكو تحصد نجاحات غير متوقعة

قرية «بانمونجوم» ومستقبل المخاطر النووية

العدوان المتجاوز كل الحدود

سكريبال والحرب الدبلوماسية الساخنة

عن العقيدة السياسية للدول الكبرى

لماذا صواريخ «إس 400» في جزيرة القرم؟

روسيا في العام2017

الحوار الأوروبي الإفريقي والقنابل الموقوتة

استراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط

استفتاء كردستان ليس حرباً عربية – كردية

أفغانستان الجريحة

مؤشرات التطرُّف المُقلِقة

توازن الرعب في أقصى الشرق

أخطر مُربع في الصراع

الموصل مدينة العذابات الكبرى!

واشنطن وبيونج يانج و«الصبر الاستراتيجي»

جُزُر الكوريل وتوترالعلاقات الروسية اليابانية