مجرّد يوم عطلة للبنانيين في عيد استقلالهم الـ 73

عزت صافي (الحياة)

يضحك اللبنانيون من أنفسهم إذا ما تبادل بعضهم التهنئة في مناسبة عيد الاستقلال الذي يصادف يوم 22 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام. فمنذ إحدى وأربعين سنة اختفت معالم هذا العيد وقد كانت تغطي شوارع بيروت فيما كان العلم اللبناني يزيّن شرفات المنازل في المناطق القريبة والبعيدة.

إنه العيد الثالث والسبعون للاستقلال الذي تحوّل مجرّد ذكرى رسمية. وإذا كان العقد الزمني هو المقياس بين جيل وآخر يكون للبنان هذه السنة جيله الاستقلالي الثامن الذي يراوح عمره بين سنة وعشر سنوات. ويمكن لمن عاش عقود الاستقلال حتى اليوم أن يراجع تلك العقود التي سبقت العام 1970 ليتذكر كم كان للبنان من العز والمجد والازدهار والاستقرار والافتخار بعاصمته، وبحضارة عروبته وغنى ثقافته وانفتاحه على آفاق حضارات الغرب والشرق، مشاركاً ومضارباً.

كان اللبناني في ذلك الزمن يعيش وطنيته بصدق وعفوية على أنها قاعدة مكوّنات شخصيته. وهو كان يردّد النشيد الوطني اللبناني بنشوة، وبصدق وبحماسة تعبّر عن شوق إلى يوم يفتدي فيه علم بلاده بحياته.

كان العام 1970 آخر عهد لبنان بالاستقلال، وبما كان فيه من حرية وديموقراطية ومدنية واستقرار وطمأنينة. كل ذلك كان نتيجة وضع اقتصادي مزدهر، وليرة لبنانية ثابتة لها وزنها في الأسواق المالية والعالمية، مدعومة بتغطية ذهبية عالية، ولا ديون على الخزينة، ولا رهونات، بل دفق أموال وودائع عربية وأجنبية على مصارف لبنان، وعلى أسواقه، وعلى مؤسساته التجارية والصناعية والسياحية التي كانت محصنة بالثقة والأمان والاستقرار.

لكن ذلك «اللبنان» كانت تنقصه «الذمة المالية»، أي الأمانة والشفافية والرقابة المرتبطة بقانون، وقاض ومحاسبة وأحكام بالعدل.

وذلك «اللبنان» كانت تنقصه العدالة والمساواة بين اللبنانيين، بالحقوق والواجبات، في المناصب وفي المكاسب.

ويقال عن اللبنانيين إنهم شعب لا يرتاح إلا مع المشاكل، فإن لم تكن لديهم مشكلة بحثوا عن مشكلة. وإن لم يجدوها اختلقوها.

مع ذلك قد يكون لبنان البلد الأول في العالم الذي يسجّل أعلى رقم بالدعوة الى الوحدة الوطنية والتضامن. فالحكام والزعماء السياسيون ورؤساء الأحزاب، والكتل النيابية، والنقابيون، ورجال الدين، كلّهم يتفقون على ضرورة نبذ الخلافات والارتفاع فوق المصالح الشخصية والنزعات الطائفية، ولا ينقطع سيل البيانات والخطابات في هذا الموضوع إلا لفترة قصيرة ثم يعود من جديد، وبقاموس جديد من مفردات ومصطلحات الهجوم والدفاع والاتهام والافتراء.

ولا ينسى اللبنانيون تاريخهم القديم وتاريخهم (الوسط) بين القديم والحديث، أي بين العام 1975 والعام 1989 (أربع عشرة سنة من حروب الأهل بمشاركة الأخوة الفلسطينيين) والنتائج كوارث وفواجع لم تسلم منها قرية او مدينة، حتى جاء الفرج من المملكة العربية السعودية حيث عُقد «مؤتمر الطائف»، وكان اتفاق الإنقاذ التاريخي الذي وُلد في تلك المدينة التي اختارتها المملكة لاستضافة مجلس النواب اللبناني. وهي مدينة ذات مناخ شبيه بمناخ لبنان، فعلى مقربة منها تقع تلال «الشفا» حيث ثمرة الرمان تماثل رمانة لبنان بالحجم والحمرة والحلاوة.

كانت غرفة الصحافة في قصر الطائف تستقطب النواب اللبنانيين المؤتمرين، حيث كان هناك مندوبون لمعظم وسائل الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع في العالم، وكانت معظم الصحف الصادرة بالعربية والأجنبية معروضة، وبينها صحيفة إماراتية، وكان في إحدى صفحاتها مقال من بيروت بعنوان «وطن على ورق» بتوقيع «لبناني» عمره 21 سنة يوجّه رسالته الى النواب اللبنانيين المؤتمرين، وكانوا قد تقاطروا الى «الطائف» من مختلف عواصم الغرب، محتفظين بلقب «أصحاب السعادة»، وكانت قد مضت سبع عشرة سنة على نهاية خدمتهم الشرعية، ولا يزال عدد منهم في البرلمان الحالي وقد زاد رصيدهم النيابي 28 سنة إضافية، وهم كانوا خلال تلك السنوات ينفقون من مرتباتهم التي لم تنقطع. وقد خاطبهم الشاب اللبناني بهذا النص:

«حضرات السادة النواب اللبنانيين المجتمعين في مدينة «الطائف» السعودية لابتكار اتفاق لحل أزمة لبنان».

«لا أعرفكم. لا أعرف أحداً منكم. ولا أحد منكم يعرفني.

«كان عمري ثماني سنوات عندما اندلعت الحرب في وطني وبين أهلي. ولم أكن أدرك أسباب الحرب وأهدافها. لكني ذقت لوعتها واحترقت بنارها، وملأ رمادها عيني وفمي واخترق دمي.

«وبين وقف إطلاق نار وآخر كنت أتعلم… وكبرت ودويّ الانفجارات ساكن في أذني، والهلع في عيون الهاربين من الموت يلاحقني، ورائحة الملاجئ لا تفارقني.

«ولقد استطعت أن أتغلّب على دعوة السلاح، حتى تخرّجت. ولا تسألوني كيف تعلّمت وتخرّجت.

«والآن، هنا أنا واقفاً في العراء على أطلال بيتي وأكوام أحلامي. أنظر الى المستقبل فلا أراه من خلال طروحاتكم، إنما أراه من خلال إرادة جيلي وقراره بأن يعيد بناء دولته ونظامه من أحكام عصر لن تكونوا في حسابه».

«أعلم أنكم ترسمون لنا وطناً على ورق. فلا تحاولوا أن تخدعونا بأنكم قادرون على جعله حقيقة. فأهلي يعرفونكم، وقد جربوكم واختبروكم».

ومع الأسف صحّت رؤية ذلك الجيل الذي تكلم باسمه ذلك الشاب الطموح. فالعيد الثالث والسبعون لاستقلال لبنان يمرّ كيوم عطلة. وإذا كان العقد الزمني مقياساً بين جيل وآخر يكون للبنان هذه السنة جيله الاستقلالي الثامن. ويمكن لمن عاش عقود الاستقلال حتى اليوم أن يراجع تلك العقود ليكتشف أن اللبناني يعيش وطنيته الصحيحة والسليمة في مراحل الدروس الابتدائية حين يتعلق بالعلم اللبناني ويردد نشيده الوطني بعفوية وحيوية وبصدق وشوق الى يوم يفيه حقاً وديناً عليه. لكنه ما إن يدخل المرحلة المتوسطة حتى يبدأ اكتشاف وطن آخر، وربما غير وطن، أو أكثر من وطن، تبعاً لطائفته، ومذهبه، ومنطقته، وسياسة وعائلته، وزعامته. وفي الوقت عينه يبدأ يسمع ويقرأ ويحفظ مصطلحات من نوع «وحدة وطنية» و «ميثاقية» و ة»شراكة» أو «شركة»، وكأن الوطن «شركة مساهمة» ولكل مواطن نصيب من حصة طائفته وفق عدد أسهمها في الشركة.

وكما يبدو فإن الاتفاق لم يتم بعد على عنوان، او تفسير مشترك لاتفاق الطائف. ولعل الأصح «اتفاق الطوائف». فهل يكون هذا الاتفاق خاتمة طموحات اللبنانيين، أم أنه فاتحة لمستقبل أفضل يتكرّس فيه اتفاق وطني كامل يساوي بين اللبنانيين في الحقوق والواجبات، والوظائف والمناصب من أدنى درجة إلى أعلى مرتبة في الجمهورية؟

ولعل الحلم اللبناني يبدأ من البرازيل حيث الرئيس لبناني، وهو أحد الرؤساء الأقطاب الخمسة الذين يشكلون قمة دول «بريكس». وقد ظهر الرئيس البرازيلي اللبناني الأصل ميشال تامر في لقاء القمة التي عقدتها مجموعة «بريكس» في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في مدينة «غاو» في الهند، وكان إلى يساره على المنصة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الهندي مار يندرا مودي، والرئيس الصيني جينبينغ، ورئيس دولة جنوب أفريقيا جاكوب زوما.

ولا بدّ أن اللبنانيين نظروا الى تلك الصورة بافتخار وإعجاب. فها هو لبناني من بلدة «بتعبورة» في منطقة الكورة (شمال لبنان) وهو من الطائفة الأرثوذكسية، رئيس دولة عظمى في قارتها، وقد سبق له أن زار لبنان وطاف في بلدته من حي الى حي، ومن حفل الى حفل.

ويقال إن أحد أقربائه همس في أذنه: لو كنت هنا في لبنان هل تعتقد بأن كان بإمكانك أن تكون مختاراً على بتعبورة؟!

 

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟